يبدو أن كل ما ترغب فيه قوى المعارضة قد أثبت الواقع عجزها عن إمكانية تحقيقه بالوسائل المقبولة، لذلك ظلت تلجأ دائماً صوب الوجهة المغايرة لمسيرة الإجماع الوطني، ولكن بنفس القدر هناك لوم وعتاب أيضاً للنظام كونه قد فشل أيضاً في التبشير بخطاب وطني جامع، وهذا هو الواقع الخلافي المستمر للقوى السياسية في الحكومة والمعارضة معاً، وهذا الواقع هو واحد من نتائج التجربة السودانية السياسية العريضة الممتدة التي شكلت متناقضات الساحة، فخلال العقد الأول من تاريخ السودان السياسي، عرف أهل السودان الانقلابات العسكرية والانتفاضات وأشكال الحكم الانتقالي والديمقراطي والتمرد، وقبل ذلك اختلفوا على الاستقلال نفسه. لذلك ليس من المنصف أن نحسب هذا الواقع على مجموعة حاكمة بعينها؛ لأنه واقع عرفه السودان قبل استقلاله، ومنذ ذاك الوقت ظل يشكل بوابة لتدخلات أجنبية ومحاولات للهيمنة والسيطرة على الثروات. وبالتأكيد ما أحاط بكل هذا في تجربتنا العريضة يحيط الآن بتجربة الاستفتاء وتقرير المصير. فهل قضية الوحدة والانفصال ستمضي بنا في مسار مضاد للوطنية والإرادة السياسية؟ وماهو الموقف الآن في أعقاب انتهاء التسجيل؟ وكيف هو المشهد في ولايات التمازج والتماس بين الشمال والجنوب؟ عدد من الأسئلة المهمة حول المشهد السياسي والواقع والحدث وماهو قادم طرحناها على والي ولاية النيل الأبيض، د. يوسف الشنبلي، في الحوار الذي ننشره على حلقتين، حيث بدأنا هذه الحلقة بالسؤال: { باقان أموم، الأمين العام للحركة الشعبية، ظل يهاجم المؤتمر الوطني على الدوام ويصفه بالفشل والفساد. ما رأيكم؟ - باقان أموم، كظاهرة من الظواهر التي ظلت تثير غباراً منذ توقيع الاتفاقية، هذا دور جُبل على أن يلعبه، والحديث عن الفساد آخر من يتحدث عنه هو باقان أموم، فكل المعلومات تشير إلى أن ما دُفع للجنوب بالاتفاقية من أموال من المركز كان يمكن أن يغير واقع الجنوب، ولكن الجنوب لم يبارح مكانه بسبب السياسات الهوجاء وعدم الإنفاق في اتجاه التنمية والخدمات، والمواطن البسيط في الجنوب يتساءل: أين ذهبت هذه الأموال التي خُصِّصت للجنوب.. هل غيرت وجه الحياة؟ فالجنوب مازال يعاني، وأتيحت لي الفرصة قبل فترة قريبة أن أسجل زيارتين إلى جوبا وأويل، وممَّا شاهدته في وجوه الناس البسطاء أقول إن الجنوب لم يبارح مكانه بسبب سياسات باقان أموم وأمثاله، والمؤتمر الوطني ما حققه في العهد الوطني لم تحققه أيّة حكومة، فهو فجَّر كثيراً من الطاقات التي كانت حلماً، والبترول الذي ينعم به باقان أموم فجَّره المؤتمر الوطني، وحتى هذه الاتفاقية التي ينعمون بها لولا المؤتمر الوطني لكانت الحرب أيضاً دائرة، فباقان أموم وأمثاله هم ظاهرة من الظوار السالبة في مسيرة العلاقة في الحكم بين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني. { بعض جنوبيي المؤتمر الوطني الذين خرجوا وانسلخوا من الحزب، يشيرون في تبريراتهم إلى أن خروجهم مؤشر على أن المؤتمر الوطني يعاني بعض الشيء في أدائه الديمقراطي ويتحكم قليلون فيه. فهل هذه المعاناة في الأداء الديمقراطي قد انسحبت على الولايات أيضاً؟ - أن يعاني في أدائه الديمقراطي، هذه كلمات لا أجد ما يبررها، فالمؤتمر الوطني خرج من انتخابات شهد لها كل العالم، وخرج من معركة جبُن عنها الآخرون، وأفسح المجال لكل الأحزاب كي تمارس حقها في الترشيح للرئاسة والولاة والمجالس التشريعية والمجلس الوطني، وكانت على هذه الممارسة رقابة محلية وإقليمية ودولية. { هل أنت راضٍ عن أداء المؤتمر الوطني؟ - نعم راضٍ عن أدائه وأنا من الذين ترعرعوا فيه. { هل أنت من الأصلاء أم من الدخلاء كما يطلق على الشخوص في مسيرة أي حزب؟ - ماذا تقصد بأصلاء ودخلاء، أنا حقيقة لست مستقطباً أو مُرغًّباً، وإنما ترعرعت منذ نعومة أظافري في صف الحركة الإسلامية، والإنقاذ أيضاً جاءت تلبية لأشواق الإسلاميين عامةً، ولا أقول للحركة الإسلامية، فانخرطنا في هذا الطريق ونحن من بناة الإنقاذ منذ أن كانت فكرة، فلم أخرج من هياكل الحزب إلى أن وصلت إلى هذا الموقع. { في ولايتك على النيل الأبيض، هل تنظر بنظارة المؤتمر الوطني أم الحركة الإسلامية أم بمنظور أوسع من ذلك كله؟ - المؤتمر الوطني هو الوعاء الشامل، والحركة الإسلامية تمثل القلب للمؤتمر الوطني، وأنا لا أعتقد أن هناك جسداً يعيش بدون قلب، فالمؤتمر الوطني هو وعاء شامل فيه المسلم والمسيحي وفيه اللاديني، ونحن حقيقة مطلوب منّا أن ندير كل هذه الفعاليات في إطار المؤتمر الوطني كجسم. { ماذا تقول في ما بشّر به د. حسن عبدالله الترابي من حل قريب لأزمة دارفور، بل في توقعاته بأن يكون الحل في يوم 17 من الشهر الجاري؟ - حقيقة أي إسهام لحل قضية دارفور أو أية قضية في السودان لا تقلل منه ونعض على أي إسهام بالنواجز، ونقدر أية مبادرة جادة دون أجندة خفية ودون كر أو فر، والترابي حقيقة نقدر أنه يملك قدرات سياسية وعلمية وإلمام بالشأن العام، وبالتالي فإن أراد أن يسهم في اتجاه وحدة أهل السودان واستقراره فهذا ما نودّه منه ونحفظه له وسيحفظه السودان والتاريخ. { وحدة الإسلاميين في هذا الظرف الشائك من مسيرة البلاد هل تعتقد أنها باتت ملحة ومطلوبة أكثر من أي وقت؟ - نحن نحلم دائماً بأن أهل الحكمة والحرص على وحدة الإسلاميين، نراهن عليهم دائماً، وذلك بأنه لا بد من أن يتوحد الإسلاميون، لأن في توحدهم وحدة السودان وقوته، والإسلاميون مازالوا بخير، والحد الأدنى في العلاقات بينهم والالتفاف حول الحد الأدنى من قضايا السودان مازال موجوداً، وإذا قصدت الوحدة بعد الاختراق الذي تم في الرابع من رمضان، ذاك الحدث الشهير، فأنا أعتقد أن كل عوامل التباين والتقاطع والشد والجذب الآن اختفت بنسبة كبيرة جداً، والآن هناك عودة واضحة إلى الوحدة، ولعل آخر الذين عادوا «الحاج آدم»، وهو من الرموز والأخيار، وغيره من الإخوان الذين عادوا إلى صف المؤتمر الوطني، باعتبار أن هذه الدولة ليس ملكاً لشخص وإنما قامت على مبادئ ودماء شهداء وعلى عهد وميثاق، وكل الذين يودّون الآن لهذا البرنامج أن يستمر فهم في حالة عودة ورجوع مما كانوا فيه. { الآن هناك مساعٍ كبيرة يقوم بها المجلس المركزي للحكم الاتحادي في سبيل تصحيح وتقويم مسيرة الحكم المحلي والعلاقات الأفقية والرأسية، وهناك ورش عمل عديدة تشاركون فيها كولاة ولايات، كيف تنظرون إلى هذا الواقع من زاوية الممارسة اليومية؟ - بلا شك هي انتباهة مبكرة، لأن الناس افتقدوا لفترة من الزمن قيام المؤسسات التي تراجع العلاقات الأفقية والرأسية بين مؤسسات الحكم، ونحن ما أحوج بعد اتفاقية نيفاشا إلى أن نراجع هياكلنا في ظل النظام الفيدرالي، خاصة ونحن الآن قد خرجنا من تجربة الانتخابات التي كان من المفترض أن تصاحبها ثورة في القوانين التي تحكم هذه العلاقات، وأنا أعتقد أنه مقارنةً بتجارب دول غيرنا في إنفاذ الحكم الاتحادي، فنحن لم نصل إلى النهايات، ونحتاج أن نراجع الدساتير التي أعطت الآن الولايات الحق في قيام الحكم المحلي، ونحتاج أن نراجع الحكم المحلي بحيث يقوم على أسس تراعي المصلحة العامة، وليس على أسس تراعي الجهوية أو القبلية أو المصلحية، وأنا أعتقد أن الحكم المحلي أو الولائي عامة صحيح تنزلت فيه سلطات وأعباء، وكُتب ما كُتب في هذه الأعباء، ولكن أعتقد ما زالت قسمة الثروة أو الموارد ضعيفة جداً لا تفي برغبة المواطن في الخدمات، خاصة على مستوى الحكم المحلي، باعتبار أن الحكم المحلي هو القاعدة الأساسية وهو المباشر للمواطن في مسألة تقديم الخدمات. أعتقد أيضاً أننا محتاجون أن نراجع الخدمة المدنية في إطار الحكم الاتحادي أو المحلي من حيث الكم ومن حيث الولاء لدائرة الاختصاص المكاني، فما زالت الخدمة المدنية في هيكل الحكم المحلي حقيقة تعمل بالتفويض، رغم أن الحكم الاتحادي الآن بموجب الدساتير التي قامت في البلاد هو سلطة مخولة، والسلطات المخولة هي حقيقة قد تتنفذ وقد تصل إلى منطقة محددة، ثم تقف بالتفويض في منطقة محددة أيضاً، ونحن نعتقد أنه مع توزيع الثروة والإيرادات الحقيقية لابد من أن يكون الولاء في الخدمة المدنية للمستوى المعين حتى يمارس الحكم المحلي صلاحياته التامة، وأنا أعتقد أنه في مسيرة الحكم المحلي الذي تابعناه منذ قانون مارشال مروراً بالأعوام 1971م و1991م وما أعقبها من سنوات، نحن محتاجون أن نعيد للضابط الإداري صلاحياته وهيبته التي عرف بها كموظف للحكم المحلي، فحقيقة دوره قد تراجع، وواحدة من أسباب هذا التراجع الوصف لمهامه واختصاصاته.. أيضاً الوظيفة لم تكن حصرياً على الضابط الإداري الذي تخرج وتوظف، وحقيقة هذه أضعفت دور الضابط الإداري.