(الأمريكان كارات، كارات.. يمشو ويجو فينا) وأخيراً جاءونا وفي صحبتهم نانسي، مهندسة الديمقراطية الأمريكية (المغرضة) ومهندسة إدارة الصراع، هي إذن (الديمقراطية الأمريكية، الجاهزة والمعلبة) التي قلنا بها في مقال سابق.. ديمقراطية (المحاصصة) القائمة على العرق والدين، وكانت ستأتي محاصصة سليمة ومعافاة بسلام من الداخل بعيداً عن (الديمقراطية الأمريكية، مستوردة ومعلبة، وماركة مسجلة مزينة بصورة نانسي). قال المبعوث الأمريكي للسودان، سكوت غرايشن، مفاخراً بنانسي ومبشراً بطالعها الميمون، ليس علينا بالطبع ولكن على واضعي الإستراتيجية الأمريكية.. قال غرايشن في (مؤتمره التليفوني) عن نانسي: (صباح الخير لكل الموجودين هنا ومساء الخير لكل الغائبين عن هنا، قبل يومين أكملت زيارة إلى دارفور استغرقت ثلاثة أيام مع نانسي، وهي مساعدة مدير الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والشؤون الديمقراطية، والمساعدات الإنسانية). الصحافة 17/12. كما سنرى لاحقاً فإن في حديث غرايشن إرهاصات لديمقراطية (المحاصصة) العرقية والدينية كما فعلوا بالعراق، وفقاً لاتفاقية نيفاشا كان هدف أمريكا هو تأكيد سيطرة الحركة الشعبية مدعومة بحركات دارفور وبعض المعارضة الشمالية، على أن تكون الحركة الشعبية في القمة (منصوبة على عمود خرصانة مسلحة، أمريكي الصنع).. ولكن انتخابات الفترة الانتقالية جاءت بعكس ما كانت تأمل.. فأمريكا الآن حريصة على ذهاب الجنوب (ببتروله، وبأبيي) ليأتي بعد ذلك دور نانسي وأشباهها وشبيهاتها، بالضغط على الحكومة ضغطاً سيأتي مكثفاً (لتعويمها) في محيط حركات دارفور والمعارضة، في سودان شمالي موحد. وهنا تتقاطع الإستراتيجيات، فهنالك إستراتيجية خاصة بقوى خارجية أخرى تريد تقسيم السودان، وفي حالة فشل أمريكا في الضغط على الحكومة لتأتي محاصصة السلطة والثروة محققة للإستراتيجية الأمريكية، وبضغوط ذات القوى في داخل أمريكا والتي تريد تقسيم السودان، قد تنحاز أمريكا لمخطط التقسيم. وعلى قمة قوى التقسيم تأتي إسرائيل وحليفتها أوغندا، وفصل الجنوب هو طموح أوغندي قديم أُضيفت إليه الآن دارفور. في كتابه: السودان والأفريقانية، يتحدث الناقد والمفكر والدبلوماسي - الراحل المقيم – عبد الهادي الصديق، عن المخطط الأوغندي، الهادف إلى فصل جنوب السودان عن شماله، فيدلى بشاهدته عن ورقة قُدمت باسم دبلوماسي أوغندي في مؤتمر الأفريقانية السابع في كمبالا، على أنها ورقة تمثل الرأي الشخصي لهذا الدبلوماسي، ويشكك الصديق بأن الورقة تمثل وجهة النظر الأوغندية، والورقة تتحدث عن خريطة جديدة لأفريقيا، من مكوناتها تجمع من عُدة دول هي أوغندا، كينيا، زائير، تشاد، الكاميرون، الكنغو، أفريقيا الوسطى، وجنوب السودان بعد فصله عن شماله، تجمع تكون فيه أوغندا هي الدولة الأقوى وصاحبة القدح المُعلى (فيا أخوانا في الحركة الشعبية ويا أهل الجنوب انتم مستهدفون من أوغندا، من قديم). شهادة عبد الهادي الصديق يؤكدها الواقع الراهن وتؤكدها رغبة أوغندا المعلنة في فصل الجنوب ويؤكدها فعلها فيه متحالفة مع إسرائيل. جاء في صحيفة أخبار اليوم نقلاً عن SMC: 17/12/2010م (كشفت أوغندا عن نشاطها التسليحي للحركة الشعبية الذي يتم برعاية إسرائيلية، خلال الأسابيع السابقة، وذلك في مسعى لإكمال البناء العسكري للجيش الشعبي قبل الاستفتاء، واعترف رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، الإسرائيلي، بوجود دور إسرائيلي واسع لمساندة الحركات الانفصالية في السودان، مشيراً إلى الحركة الشعبية وموضحاً أن هذا الدور تمثل في إيصال السلاح والتدريب والدعم اللوجستي إلى جانب تشكيل الجهاز الاستخباراتي للحركة الشعبية، وقال مصدر عسكري إن التنسيق الإسرائيلي الأوغندي وصل مدًى بعيداً، كاشفاً عن إمساك الرئيس الأوغندي شخصياً بأمر تسليح الحركة الشعبية تحت رعاية المؤسسة العسكرية، وأوردت مجلة (بمحانيه) العسكرية الإسرائيلية وموقع (تيك ديبكا) الاليكتروني، أوردا مقتطفات من تقرير قدمه رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلي، تناول فيه الدور الإسرائيلي في السودان، موضحاً دورهم الكبير في الجنوب ودارفور وأن لهم شبكات قادرة على العمل إلى ما لا نهاية مؤكداً إشرافهم على تنظيم الحركة الشعبية عبر حليفتهم أوغندا). إذن فإسرائيل نجحت في فصل الجنوب عبر دعمها للحركة الشعبية وجاء الآن الدور على دارفور في مخطط إسرائيل المعلن لتفكيك السودان بمعاونة أوغندا، بينما تهدف أمريكا إلى الاحتفاظ بوحدة السودان وفق المحاصصة العرقية والدينية. يتضح ذلك في أقوال غرايشن في مؤتمرة الصحفي، سالف الذكر، وكان مضمون أحد الأسئلة الموجَّهة لغرايشن عن واقعة تسليح الجنوب عبر أوغندا وكينيا.. وهي واقعة مثبتة، وكانت إجابة غرايشن على السؤال المطروح هي: (نحن قلقون بشأن أي تدفق إضافي من الأسلحة على دارفور ومن الواضح أننا نبحث عن حالة يكون فيها هناك سلام ويكون هناك وقف إطلاق نار على نطاق دارفور والبحث عن حل تفاوضي لقضايا دارفور). في ما سيأتي من أقوال غرايشن فأمريكا تريدها أن تكون ديمقراطية (محاصصة) في سودان شمالي تتوحد مناطقه بعد انفصال الجنوب، لترتيب البيت السوداني الشمالي، وفق مصالحها، وهو ما يتناقض مع مخطط التقسيم الإسرائيلي الأوغندي، ولكن كما قلنا فموقف أمريكا سيتحدد على ضوء مدى استجابة الحكومة لضغوط أمريكا وحليفاتها الأوروبيات، التي ستصبح أشد شراسة بعد انفصال الجنوب، وأيضاَ ضغوط الجماعات الأمريكية المناصرة لدارفور ووراء هذه الجماعات يقف اللوبي اليهودي في أمريكا وتقف إسرائيل، تناقض المخطط الإسرائيلي المدعوم بجماعات الضغط في داخل أمريكا والموالية لإسرائيل، تناقضه مع المخطط الأمريكي بإعادة ترتيب البيت السوداني (الحقيقة الموجعة في الحالتين) تناقض المخططين يكشف عنهما سؤال وُجِّه لغرايشن من أحد الصحفيين وتكشف عنه إجابة غرايشن عليه، والسؤال هو: (عفواً ولكن أريد أن أسأل سؤالاً يتعلق بمستقبل السودان إجمالاً لأنني سمعت عن رأي يقول إن السودان سينتهي بالتقسيم إلى عُدة أقطار مثل دارفور والمنطقة الأكبر في الشرق وأبيي لاحقاً، أو ربما يكون فيدرالياً، فكيف يمكن لك أن تعالج مثل هذه القضايا)؟ غرايشن: (نحن نعمل جاهدين مع أعضاء المجتمع الدولي الآخرين للتأكد من تنفيذ اتفاقية السلام الشامل تنفيذاً كاملاً وعندما يحدث ذلك فإنه سيعطي أهل الجنوب فرصة لاختيار مستقبلهم، أنهم يتحدون مع الشمال أو ينفصلون عنه، فليس هناك عملية أخرى في السودان من شأنها أن تتمخض عن أقطار منفصلة). تنفيذ اتفاقية السلام الشامل، في سياق حديث غرايشن هنا، يعني تقرير مصير الجنوب وهو في حقيقته تقرير انفصال الجنوب بمباركة أمريكية وكخيار وضعته أمريكا في اتفاقية نيفاشا، أما عن ترتيب الشمال بعد انفصال الجنوب فنعثر عليه في قول غرايشن: (إن الحقيقة التي أومن بها هي أن الحكومة السودانية في الخرطوم يجب أن تعمل جاهدة لتضمن أن أهل دارفور مندمجون اندماجاً كاملاً وهذا هو السبب الذي يجعل المفاوضات في دارفور وفي الدوحة مهمة جداً لأنها ترسم مستقبلاً يشمل قسمة السلطة ويشمل قسمة طيبة وذلك لكي تحصل هذه المناطق على أكبر نصيب من الكيكة). العبارة الواردة في حديث غرايشن هنا (أن تحصل هذه المناطق على أكبر نصيب من الكيكة) هي تقنين للواقع الإثني القائم (لتكريسه لا لمعالجته) ولهذا جاءت نانسي مهندسة الديمقراطية وإدارة الصراع – طرف أمريكا – أي أنها ستكون ديمقراطية (محاصصة عرقية) وخطر هذا النوع من الديمقراطية يتمظهر في ذات السبب (النزاع العرقي) الذي تأسست عليه ديمقراطية المحاصصة وسينتهي بتفجيرها، وبالتالي فهي ليست ديمقراطية تنتهي بالمواطنة ولكن هي حلقة جهنمية مفرغة من الصراعات المستقبلية الكامنة وأمريكا جاهزة للتدخل بحسب مصالحها وعلى رأس هذه المصالح تأتي مصلحتها في تحجيم نظام الإنقاذ. في ذات المؤتمر الصحفي، حمَّل غرايشن الحكومة مسؤولية ما يجري في دارفور وقال (بأن الرئيس أوباما ملتزم بالمثل بحسم صراع دارفور، التزامه بالتنفيذ الكامل لاتفاقية السلام الشامل، وفي الوقت المناسب) وكل ما قال به غرايشن هنا يعبر عن إستراتيجية أوباما تجاه السودان وهي قيد التنفيذ، وتقضي هذه الإستراتيجية بتنفيذ اتفاقية السلام الشامل بضمان انفصال الجنوب كخيار لشعبه وللحركة الشعبية وهو أيضاً صار خيار أمريكا بعد فشل مخططها بإسقاط نظام الإنقاذ في انتخابات الفترة الانتقالية، وتتضمن هذه الإستراتيجية أيضاً تقسيم الكيكة الذي قال به غرايشن، أي ترتيب أوضاع الشمال ما بعد انفصال الجنوب عنه. عن أبيي، فمن الواضح تمتع سلفاكير بالعقلانية التي تمظهرت في الاتفاقية الأمنية الخاص بحماية مناطق إنتاج البترول في الجنوب والموقعة بين الشريكين، فسلفاكير على وعي بحاجة الجنوب للاستقرار والتنمية، وعليه كان من الممكن أن يتوصل مع الحكومة لحل عقلاني بشأن أبيي، وللحقيقة فإن ما تطالب به الحكومة هو حل مناسب للمسيرية ولدينكا نقوك معاً، والحل الذي قبلت به الحكومة هو تقسيم أبيي مناصفة بين شمال السودان وجنوبه، وحتى المسيرية حكّموا صوت العقل فيهم بأن فن التفاوض يتطلب تقديم تنازلات من الطرفين. كان من الممكن لسلفاكير التوصل لحل عقلاني في أبيي، بالنظر إلى الاتفاقية الأمنية الخاصة بالبترول، وبالنظر إلى ممارسات أخرى له في ما يخص الشأن الجنوبي، منها ما جاء في صحيفة الصحافة 19/12 عن مساعيه للتصالح مع جورج أطور المتمرد على حكومته، وتشكيله وفداً يرأسه المطران دانيال دينق رئيس أساقفة جنوب السودان، ومهمته رأب الصدع بين أطور وحكومة الجنوب، وقيل بأن أطور قبل بالعفو العام الذي أعلن عنه سلفاكير وأبدى استعداده للتفاوض وبناءً عليه سيتم تشكيل وفد للتفاوض من جانب سلفاكير لانطلاق العملية التصالحية تمهيداً لوضع اللمسات النهائية لإنهاء الصراع ووضع ترتيبات إعادة استيعاب أطور وقواته في جيش الحركة الشعبية. ما سقناه من شواهد هو للتدليل على عقلانية سلفاكير، ويبدو أن همه هو تمهيد أرض الجنوب لانجاز التنمية إلا أنه واقع تحت ضغوط أبناء أبيي وعلى رأسهم دينق ألور. كان غرايشن قد احتدَّ في الحديث مع وفد الحركة الشعبية في مفاوضات أبيي وشجب تعنته، مهدداً له بأن أمريكا لن تقف مع الحركة الشعبية لو عادت الحرب بين الشمال والجنوب، ولكن يبدو أن ضغوط اليمين الجمهوري والديمقراطيين اليساريين والأصوليين الدينيين واللوبي الأسود في أمريكا، وهي القوى التي هددت استمرار غرايشن ذاته كمبعوث للرئيس الأمريكي أوباما، إلى السودان، دفعت هذه القوى بغرايشن إلى ترديد ذات أقوال ألور عن أن الوقت المتبقي ليس كافياً لإجراء استفتاء أبيي، وتحدث غرايشن عن الحل السياسي، وما يُكمل قوله هذا ولكنه لم يذكره، هو مقترح ضم أبيي للجنوب بقرار رئاسي وإعطاء المسيرية ثلث السلطة فيها وإعطائهم محافظة في المنطقة الشمالية منها، وهو المقترح الأمريكي الظالم للمسيرية والمساند لألور وأمثاله الذي خرج به أوباما من تحت (مطرقة وسندان) ضغوط اللوبيات الواقعة عليه، وهو مع ذلك مقترح مرفوض من جماعة ألور، الضاغطة على سلفاكير. ومن ضمن المصائب المتكالبة علينا، الكارثة الأمريكية سوزان رايس، مبعوثة أمريكا في مجلس الأمن التي تتولى رئاسة المجلس الدولي في هذا الشهر.. قالت رايس إن المجلس يلاحظ ببالغ القلق عدم التوصل إلى اتفاق بشأن أبيي، ويحث المجلس الأطراف بشدة، على تهدئة التوترات المتصاعدة في أبيي والتوصل لحل فوري للمشكلة – أخبار اليوم 17/12. وتعني رايس بقولها هذا، الضغط على حكومة السودان فهي معروفة بانحيازها للجنوب مشكورة من سلفاكير مع (باقة ورد وهتافات تمجيد لها) عندما زارت الجنوب ضمن وفد مجلس الأمن، وهي المحرضة على زيادة قوات الأممالمتحدة في السودان والمحرضة على التدخل الدولي العسكري فيه وحسم الأمر (بقوة السلاح).