{ كانت زيارتي الأولى لمدينة بورتسودان الساحلية المختلفة في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وربما كنت حينها أُحسب مع الأطفال ولكني كنت مدركة بالقدر الذي مكنني من ملاحظة الفوارق الكبيرة جداً التي طرأت على المدينة إبان زيارتي الكريمة لها مؤخراً الأسبوع المنصرم. وقد كانت زيارتي هذه المرة مختلفة في كل شيء،؛ فقد بلغت مبلغ الناضجين، وذهبت الى بورتسودان في مهمة مهنية بحتة ألا وهي المشاركة في المنتدى الشعري الثاني المقام بالمبنى الرئيس لجامعة البحر الأحمر الذي تشرفت بإحيائه بدعوة مقدرة من طلاب الجامعة الأكارم. { ورغم أن رحلتي كانت قصيرة ولم تتجاوز اليومين إلا أنها كانت مليئة بالأحداث والمشاهدات التي أجزم أنها ستبقى طويلاً على جدران الذاكرة، فكل ما في مدينة بورتسودان الآن، وكل ما ينبئ عنه مستقبلها الزاهر يحرّض على الذكرى والاندهاش. { ورغم ما عُرف عن عروس البحر منذ الأزل من تميُّز وخصوصية في المبنى والمعنى وحتى المناخ، وكل ما ندركه عن أهميتها كمدينة تجارية وميناء حيوي ومهم ليس للسودان وحده بل لأفريقيا قاطبة، كل ذلك لم يعد يعني الكثير أمام الطفرة العمرانية التي شهدتها مؤخراً وانعكست في مساحات الأسفلت الممتدة في جميع الاتجاهات والأرصفة التي تحيط بكل الشوارع التي شهدتها على الأقل. ولشد ما لفت انتباهي مستوى النظافة العالي جداً بالمدينة، بل وحرص إنسانها التام على الحفاظ على هذه النظافة وذلك الجمال. فتجد أهل بورتسودان، على غير عاداتنا السالبة، لا يغامرون برمي الأوساخ على الطرقات ويحرصون على استعمال مستودعات القمامة بانتظام في صورة حضارية رائعة أتمنى أن تشمل بلادنا قاطبة يوماً. { وللعلم فإن ما طرأ على بورتسودان من حداثة ونظافة وسفلتة وعمران لم يأتِ مصادفة ولا منحة من السماء ولا بفضل مجهودات صندوق إعمار الشرق ولا سياسات الوالي «ايلا» المتشددة ومخططاته دقيقة التنفيذ؛ ولكنها كانت أولاً وأخيراً بسبب تعاون إنسان الولاية؛ فالعديد من القطاعات والمواطنين يشدون الأحزمة ويلوكون الصبر ويتنازلون طائعين عن كل الرفاهيات، بل وبعض الضروريات، في سبيل إنفاذ مشاريع ترقية المدينة كما يجب، حتى أصبحت بالفعل مدينة سياحية جميلة تستحق أن تقام بها معظم الفعاليات والمهرجانات ومهيأة تماماً لاستقبال الزوار والسياح والوفود. ولا يزال لكل ذلك بقية؛ فقد علمت أن هذا الإعمار سيتطور ليشمل منطقة «أركويت» التي أحسبها لا تقل جمالاً عن كل المدن الساحلية الأفريقية الشهيرة كشرم الشيخ وغيرها. { وربما أكثر ما بهرني في تجوالي الى جانب (الكرانيش) الممتدة في جميع الاتجاهات بأناقتها وحُسن منظرها؛ كان هو الاهتمام الملحوظ بالأناقة ولمسات الجمال في كل البيوت التي دخلتها، رغم تفاوت معدلات دخل قاطنيها إلا أن أهل بورتسودان يتفقون جميعاً في العناية بشكل المنازل وترتيبها وتأثيثها لتبدو فارهة مريحة؛ إذ لا يخلو بيت من آخر تقاليع أطقم الجلوس وديكورات الستائر مع تمام الحرص على النظافة والنظام وحسن الضيافة. أما كرم أهل بورتسودان وطيبتهم فهي أمور أكبر من تداولها بالقلم ويكفي أنني شعرت هناك بالزهو كما لم أشعر من قبل من فرط الترحاب والاهتمام والتعامل الحميم الراقي وعدت وفي جعبتي كمية من الأصدقاء والذكريات الجميلة بعد أن قضيت أمتع اللحظات في رحاب عروس البحر الأحمر الوادعة الواعدة بمناخها المعتدل ومزاج بُنها المعتدل وإنسانها المعتدل وطعم السمك البحري الشهي الذي لا يقاوم. { ولأجل كل هذا الجمال، لا بأس من بعض الصمود والتضحية في سبيل المزيد من الترقية والنماء، على أمل أن تنتقل تجربة حكومة ولاية بورتسودان الى جميع ولايات السودان؛ لا سيما العاصمة الخرطوم التي نحلم بمعانقتها الأسفلت بهذه الطريقة ووداعها النهائي للنفايات والأنقاض والتناقض. { تلويح: عروس البحر يا حورية.. يا بورتسودان يا حِنيّة «لنا عودة بإذن الله».