في وقفة مع الذات، قال الصادق المهدي: (في عروقي تجري دماء مفرقة على إثنيات السودان، تتألم للشتات القادم، وباعتباري من أوائل الذين رأوا أننا بحاجة لتحول راديكالي من ذهنية الأحادية الثقافية، لاستيعاب التنوع وقدمت ما قدمت من مبادرات موثقة في هذا الصدد واعتبر نفسي مساهماً أساسياً في بناء الأساس النظري لكافة لبنات التصالح الشمالي الجنوبي، أشعر بغصة خانقة لمآلات الفراق، واعتبر نفسي من أوائل الذين قدموا اجتهاداً إسلامياً يتضمن مشروعية التعددية الدينية والثقافية ومشروعية المساواة في المواطنة) الأحداث 25/12. الوقفة مع الذات التي يقول بها الصادق المهدي هنا، ضرورية خاصة بالنسبة للحزب الحاكم متماسكاً ومنقسماً (بس فولة وانقسمت نصفين) وهي وقفة مع الذات واجبة على أحزاب الشمال كافة، وقفة مع الذات تسفر عن الوجه الإيجابي فيهم، ولاسيما وجه المؤتمر الوطني (ففي الشمال كان نصيبنا منه تكشيرة، والوجه الجميل عنده استفاد من تبسمه الجنوبيون، المسلحون في نيفاشا، فهي اتفاقية وُضعت على شرط سيطرة الحركة الشعبية على كل السودان أو أن ينفصل الجنوب، منح المؤتمر الوطني (باسم الوجه منبسطه)، منح الجنوبيين حكم أنفسهم والمشاركة في حكم الشمال، وما أن أسفرت الحركة الشعبية عن وجهها الانفصالي، إلا وأسفر المؤتمر الوطني عن وجهه الانغلاقي الأول (التكشيرة، نصيبنا منه في الشمال أي وجهه، بعد انقلاب الثلاثين من يونيو) لتنهال عليه سياط الإدانة من عراب الانقلاب (شيخ حسن) والجانب التأصيلي الذي استند عليه المؤتمر الوطني في نيفاشا، مستمد من عيون (تنظير) الدكتور حسن الترابي وهو تنظير يعتمد المواطنة أساساً للدستور، وهو ذات اجتهاد الصادق المهدي الخاص بالمواطنة الذي عرض له في حديثه الوارد هنا. انهال الترابي بالتقريع على تلاميذه القدامى وأقبل زعماء الشمال على بعضهم يتلاومون: من الذي أضاع الجنوب؟ هي ليست لحظة تلاوم ولكن لحظة وقفه مع الذات من الجميع، ولو التأم شمل أهل المؤتمر الوطني من جديد، ومن ثم اعترف التلاميذ بسندهم الفكري الممثل في اجتهادات الشيخ حسن الترابي، لتراجع الحزب الوطني الحاكم عن خطر السقوط في الهاوية (هاوية انغلاقه على ذاته فمن حيث التنظير فقد شيد الدكتور حسن الترابي صرحاً من الفكر شاهقاً، صرحاً سنده المواطنة والحريات، كما سنرى، ولكن الدكتور حسن الترابي ناقض نفسه وصعد إلى السلطة على ظهر دبابة، وهو اليوم يدين ردة المؤتمر الوطني الحاكم وعودته للمربع الأول العسكري الانقلابي (مربع كان هو الأساس فيه) وما أحوجنا اليوم إلى تصالح شقي الحركة الإسلامية مع بعضهما البعض وتصالحها مع بقية الأحزاب وما أحوجنا إلى ترجمة أفكار الدكتور حسن الترابي إلى واقع، فالمواطنة المُعترفة بالتعددية الإثنية والدينية لا تخص الجنوب فقط بل تخص أيضاً آخرين لا يشكلون خطراً استئصالياً للسودان القديم فبعضهم جزء أصيل منه، وبعضهم سيختار الشمال بشرط ترجمة أفكار الترابي والصادق المهدي عن المواطنة والانفتاح إلى أفعال. والمذهل هو أن تصالح أحزاب الشمال، وعلى وجه الخصوص تصالح المؤتمر الوطني والشعبي والأمة، سينتهي بهم إلى إعلان حقيقة غائرة في ضمائر الأحزاب الثلاثة، فالترابي والصادق المهدي يتفاخران بأن اتفاقية نيفاشا بُنيت على أطروحاتهما الفكرية عن حق المواطنة وفي المقابل لو اعترف حزب المؤتمر الوطني الحاكم بأحقية الترابي والصادق المهدي (التأصيلية) في اتفاقية نيفاشا، لكشفت الأحزاب الثلاثة عن الحقيقة الغائرة في الأعماق وأخفتها دواعي الحرب الدائرة بينهم وهي أن الوحدة كانت جاذبة للجنوبيين وقائمة على مبدأ المواطنة (التأصيلي) عند الترابي والصادق المهدي.. مع منح الجنوب حكم نفسه ونصيب من السلطة في الشمال ولاعترفوا بأن اختيار الحركة الشعبية للانفصال سببه الحقيقي أنها أرادت وراثة الأرض ومن عليها بعد حرثها بمجرفة السودان الجديد، عندها لكف الجميع عن التباكي على ذهاب الجنوب.. فبالتوصيف السابق كان ذهاب الجنوب حتمياً أياً كان الحزب الحاكم فيهم ولو كان الحزب الشيوعي (فجميعهم عند الحركة الشعبية صابون.. فكو طرف توبا) انظروا إلى الجانب الإيجابي فيكم (الجانب النظري) وترجموه إلى واقع.. فنحن نحتاجه الآن ويحتاجه أهلنا من الفور والنوبة و(دعونا من الدموع الكابة جُب، جُب.. على الجنوب شيلو ايديكم من راسنا وما تعزو فينا، ما ناقصين وجع راس، أو اقلبو المناحة غنائية يمكن نقدر نتحمل: يوم في البص لقيتو حياني حيتو.. سألتهم قالوا في ملكية بيتو.. لمن إنت تمشو.. أنا بعملوا كيف يا بابا، سوري لي أنت يا خي.. كفارة لي أنا). إن تصالح (شقي الفولة) مع بعضهما البعض، أي المؤتمر الوطني، ضرورية الآن أكثر مما قبل ذهاب الجنوب الوشيك؛ إذ تراهن قوى في الغرب وإسرائيل على ظروف ما بعد استفتاء الجنوب وعلى بروز جنوب جديد كما يقول ياسر عرمان في جبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور، وكسب هذه القوى للرهان متوقف على إنغلاق المؤتمر الوطني على ذاته ما بعد الاستفتاء والذي أعلن عنه بالفعل، ولكن المصالحة الوطنية الحقيقية ستجنب الوطن كل هذه الشرور (فالسودان القديم) عنده القابلية لتجديد نفسه بدون أن يفقد أصالته كما أرادوا بنا في السودان الجديد والشاهد على ذلك هو أمر مذهل آخر فالزعماء الثلاثة: الصادق والترابي متهمان بالعلمانية (ولكن أطروحاتهما الفكرية في حقيقتها هي اجتهادات فقهية مواكبة لروح العصر) ومحمد إبراهيم نقد متهم بأنه من الإسلاميين، الملاحظة هذه عن الزعماء الثلاثة تقودنا إلى حقيقة قدرة السودان القديم على تجديد نفسه دون أن يفقد أصالته، ولن يفيد المؤتمر الوطني إلا عودته إلى قاعدته الفكرية عند د. الترابي والتي قامت عليها اتفاقية نيفاشا، ممثلة في مبدأ المواطنة، مع الانفتاح على الآخرين، لا الانغلاق ما بعد الاستفتاء، وعلى رأس هؤلاء الآخرين الصادق والميرغني ونقد ودارفور والنيل الأزرق والشرق وجبال النوبة وغيرهم من أقاليم السودان والانفتاح على الشعب، بصفة عامة. في كتابه: جدلية الأصل والعصر يقول الصادق المهدي عن واقع التعدد العرقي والديني، في السودان (أكثرية المسلمين يعيشون في دول هم فيها أغلبية ولكن تعيش معهم مجموعات وطنية تنتمي لأديان أخرى ولا سبيل لتحقيق السلام معهم إلا عن طريق الاعتراف المتبادل والتعايش السلمي بين الأديان والثقافات) وكان أن جعل الصادق المهدي من المواطنة أساساً للدستور. هذا عن الصادق المهدي والمنطلقات الفكرية عنده التي يمكن الإفادة منها انفتاحاً على الآخر، فماذا عن المؤتمر الوطني؟ ماذا عن الترابي وتلاميذ الترابي (الواقفين لينا بالعكاكيز والبمبان ما بعد الاستفتاء)!؟ يلقي د. الترابي باللوم على تلاميذه متهماً إياهم بتنكب الصراط المستقيم الذي خطه لهم، متجلياً في أطروحاته الفكرية، وهذه حقيقة فكما قلنا فإن المعين التأصيلي الذي انبنت عليه اتفاقية نيفاشا هو أطروحة الترابي عن المواطنة، مقابل أطروحة الصادق المهدي عنها، والزعيمان يفاخران عن حق بأن نيفاشا جاءت كترجمة لأفكارهما.. (يا كدا.. يا تكون نيفاشا راكوبة ساكت، بلا تأصيل فقهي). لكن إدانة د. الترابي لتلاميذه تشمله هو الآخر فهو أيضاَ تنكب الصراط المستقيم الذي رسمه (كروكي هندسي باهر ولكن على الورق). ولو أدان د. الترابي استناد المؤتمر الوطني على قوة الجيش، فهو الآخر كان سيستبدل قوة العسكر بقوة أخرى، فالترابي زعيم عقائدي فهو بالتالي مثل العسكر (عسكرتاري)، إذ كانت لدكتور الترابي رؤيته الخاصة لتأمين النظام مستنبطة من الطبع العسكرتاري فيه كزعيم عقائدي، لا يستغني عن القوة ولكن بترتيبات، نتناول هنا بالتحليل حديثا أسرَّ به د. الترابي لعبد الرحيم عمر محي الدين أورده الأخير في كتابه (صراع الهوية والهوى).. إذ قال له د. يالترابي (نحن في السنة الأولى نود تأمين الثورة وإنشاء قوات الدفاع الشعبي لتأمين الثورة واستيعاب أكبر عدد من عضويتها في الأجهزة الأمنية والجيش والشرطة، حتى نطمئن أن الثورة لن تؤتى من هذا الجانب). يتحدث د. الترابي هنا عن استيعاب أكبر عدد من قوات الدفاع الشعبي في الأجهزة الأمنية والجيش والشرطة ويدخل ضمن هذا التصور بالطبع أعضاء الحركة الإسلامية ممن تلقَّوا تدريباً عسكرياً الذين أشار إليهم أمين حسن عمر في مقاله العسكريون الإسلاميون.. شركاء أم أجراء في سلطة الإنقاذ؟.. الرأي العام 13 و15 يناير 2007، كما أشار إلى دورهم في تنفيذ انقلاب الثلاثين من يونيو. ونخلص من ذلك إلى أن لوم الترابي لتلاميذه مردود إليه، بالكشف عن الطبع (العسكرتاري) فيه، كزعيم عقائدي ومطلوب من الترابي الآن أن يجلس هو والتلاميذ على كرسي (التوبة) والعودة لصراطه المستقيم (فكره هو) مضافاً إليه فكر غيره من زعماء الأحزاب، كعلاج ناجع لانغلاق المؤتمر الوطني ما بعد الاستفتاء، والمنذر بخطر تقسيم السودان، ذلك أن لدكتور الترابي رؤية للحريات باهرة أساسها التوحيد والاستخلاف والشورى، أرادها د. الترابي ديمقراطية مشاركة بعيداً عن التعددية الحزبية، ولكن صعوده للسلطة بالانقلاب انتهى بالإنقاذ إلى الشمولية، والإنفراد بالسلطة ما قبل وبعد انقسام رمضان. يقول د. الترابي عن مشاركة الشعب في الشورى، في دولته المنهارة (إنها دولة تتخذ من النظم ما يرد السياسة مرة أخرى إلى الدين ويدخلها في نطاق العبادة لله، وذلك يقضى تذكير الكثير من الناس أو تعليمهم بمواقف الإيمان وأحكام الفقه العلمي السياسي ويقضي كذلك أن يشترك الشعب كله في هذه التزكية السياسية الدينية حتى ينفعل بنيات التدين في كل حركة من حركاته، في الحياة العامة) جاء ذلك في كتابه: (خواطر في الفقه السياسي لدولة إسلامية معاصرة). ومشاركة الشعب في التزكية السياسية التي يقول بها د. الترابي هنا، أساسها التوحيد، فالحرية كامنة في عقيدة التوحيد ذاتها بأن لا خضوع لفرد أو سلطان، فلا خضوع إلا لله تعالى.. يقول د. الترابي (إن على المسلم واجب أن يتحرر من كل طاغوت، لعبادة الله سبحانه وتعالى، وواجب الدولة أن تعينه على ذلك فإذا جانبنا ذلك المنهج وجب على المسلم أن يدفع طغيان الدولة الذي يقوم حاجزاً بينه وبين الله سبحانه وتعالى). وعند الترابي فضمائر المسلمين توحدها عقيدة التوحيد وبناءً عليه فإن الشورى واجب على المسلم والمشاركة في العملية السياسية هي واجب عليه وليس فقط حقاً له لتحقيق معنى استخلاف الله تعالي للناس على الأرض، فالاستخلاف شامل لكل الناس.. يقول د. الترابي (إن المجتمع السياسي المسلم إن قام كياناً دينياً.. الدين في وجدان كل فرد منه، فلابد لنظامه السياسي أن يكون مؤسساً على إشتراك كل هذه الضمائر المنبثة، فالشورى إذن تنبثق من عقيدة التوحيد قبل أن ينص عليها نصّ القرآن الصريح، وحياة المؤمن ما دامت مؤسسة على الحرية لا يمكن أن تقوم إلا بشورى تصل بين المؤمنين طوعاً لا كرهاً، وما دامت مؤسسة على الوحدة فلا يمكن أن تقوم برأي فرد لأن الشورى شركة من الواجب على كل مسلم أن يسهم بالاجتهاد والنصح في الأمر العام، وذلك أمر معروف من الدين بالضرورة). والشورى مسؤولية كل مسلم فهي محققة لمعنى الاستخلاف.. يقول د. الترابي (إن الاستخلاف الذي يشير إليه القرآن الكريم كثيراً بمعنى السلطة السياسية التي يُمكِّن الله تعالى بها الناس على الأرض، تعاقباً، قدراً موجهاً في نصوص القرآن كلها إلى الناس أجمعين والمسؤولية عن أمانة هذه الخلافة كذلك تقع على الناس أجمعين). يقول د. الترابي هنا بأن الخلافة في الأرض أمانة ومسؤولية الناس أجمعين و(مالو الصادق، ومالو الميرغني، ومالو نقد) أليسوا من المستخلفين في الأرض، بل ومن أئمة الاستخلاف في السودان. أرادها د. الترابي وتلاميذه أمانة مشاركة شعبية بإقصاء هؤلاء وأحزابهم وحتى في هذه فشلت الإنقاذ في المرحلتين قبل وبعد انقسام رمضان، وانتهت إلى تحالف السلطة والمال (خيانة أمانة الاستخلاف) ولكن تبقى رؤية د. الترابي مفيدة على نطاق تعددي في مشاركة مع رؤى الآخرين. فهل يفعلها تلاميذ الترابي مع (شيخهم) ومع بقية الأحزاب ومع أعراق وديانات السودان المتعددة، فحتى بعد ذهاب الجنوب فهنالك تعدد عرقي وديني ما يزال في حاجته للتعددية الحقيقية، تنظيراً وممارسةً.