بزوال المكون الجنوبي من التركيبة الوطنية السودانية الشمالية نتيجة لانفصال الجنوب وإقامة دولة أخرى مستقلة ذات سيادة داخل السودان القديم الذي كانت حدوده تمتد من حلفا شمالاً إلى نمولي جنوباً ومن الجنينة غرباً إلى بورتسودان شرقاً بذلك ينشأ وضع آخر وأبرز ملامحه وقسماته هي أن الشعب الذي كنا نقول عنه قبل التقسيم إنه في طور التكوين أصبح شعباً اكتمل تكوينه تقريباً. ذلك أن الفوارق بين مكوناته المختلفة بعد التقسيم أصبحت ثانوية وصار من الممكن أن يتم الانصهار الكامل بينها فالنواحي العرقية لم تعد ذات بال- والعرب السودانيون ليسوا عرباً أقحاحاً- فقد امتزجوا بالنوبيين الذين أسسوا في الأيام الخوالي كوش ونبتة ومروي وكرمة وعلوة إلخ.. واختلطوا أيضاً بالبجا في الشرق وبالفور والمساليت والزغاوة والبرتي إلخ.. في الغرب وبالنوبة في كردفان الجنوبية وبالأنقسنا وغيرهم في أعالي النيل الأزرق. ومما يحفظ السودان الشمالي واحداً موحداً ألا نفترض أنه كله مسلم وعربي، فهناك مسيحيون وصحيح أن الغالبية الساحقة مسلمة، ثم أن وجود هؤلاء المسيحيين لا يقتصر على جبال النوبة- فهناك الأقباط وليس كل السودان الشمالي عربياً وفي نفس الوقت فإن هؤلاء السودانيين الذين ليسوا عرباً من الناحية الإثنية يعشقون اللغة العربية وبعضهم أجادوها وتفوقوا فيها على مستوى الأمة العربية وكان منهم على سبيل المثال لا الحصر جمال محمد أحمد والشاعر محيى الدين فارس والدكتور محيى الدين صابر وإلخ. وتفوق في الغناء باللغة العربية رطانة من أمثال خليل فرح ومحمد وردي والبلابل والمهدي نفسه كان يرطن. واللافت أن هؤلاء الرطانة ومنهم شرقاً الشاعر أبو آمنة حامد اقتنعوا بأن المستقبل للغة العربية ولذلك تعلموها وأجادوها ولم يخطر في بالهم أن يسعوا إلى فرض لغاتهم أو رطاناتهم على الآخرين درءاً للتهميش فقد كانوا على وعي تام بضرورة انتشار اللغة العربية لإقامته سوداناً واحداً موحداً. ولقد ذهب الجنوب والجنوبيون-وفي ذهابهم خسارة لن يشعروا بها الآن في غمرة فرحهم الهستيري بالانعتاق من الشمال المفتري الأناني المغرور لكننا شعرنا منذ مشاكوس ونيفاشا بالخسارة المقبلة- وفعلنا كل ما يمكن فعله لتفاديها ولما تأكد لنا أنها قدر أحمق الخطى وسحقت هاماتنا خطاه قررنا أن نتعامل مع الأمر الواقع - الذي من أولوياته أن يحفظ السودان الشمالي- أن نصونه ونطوره ونحميه وأن نضعه في مصاف الدول التي تستحق. ونحن مؤهلون لذلك.. وقادرون ويأتي في طليعة مؤهلاتنا قبل الموارد الطبيعية قبل النيل وكنانة والرهد وسد مروي والجزيرة والنفط والصمغ العربي إلخ.. وقبل الماضي العريق المتحضر قبل ذلك كله يأتي في طليعة مؤهلاتنا الإنسان السوداني الشمالي في الشرق والوسط وفي دارفور وكردفان وجبال النوبة والأنقسنا وفي الشمال الأقصى وفي نهر النيل، والنيلين الأبيض والأزرق - وهذا الإنسان هو بطل المرحلة القادمة ومحوره.