عقابيل التسليم بفرضية الانفصال بين شطري الوطن، رجّح بعض المراقبين تفجر أزمات عدّة بينهما. على أن حزمة المسائل العالقة، والأزمات المرشّحة التي أسفرت عن نفسها بلا مواربة في خضم مشاكسات هاوية المصير الوطني، لم تقتصر على قضية ترسيم الحدود، باعتبار أن سباقاً مع مواقيت الاستفتاء ومناسيب النفط؛ كان يجعلها في طليعة المسائل الواجب حسمها. كما لم تقتصر على مناقشات الجنسية، باعتبارها من الملفات التي تم تنشيطها عبر (حقن) إعلامية مركزة، بل برزت إلى الواجهة كذلك مسألة الديون المتراكمة على كاهل السودان بنسختيه؛ (القديم) و(الجديد).. ولا حاجة هنا إلى الشرح والتذكير بأن تصنيف النسختين يمكن قراءته جغرافياً أو أيديولوجياً..!! حسناً.. الجزء البارز من أزمة جبل الديون الجليدي أسفر عن نفسه بقوة الثلاثاء الماضي، عندما نفت الخارجية نية الخرطوم أن تأخذ على عاتقها كامل الديون السودانية، وهو تصريح يجيء عطفاً على تصريحات الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر لشبكة «سي إن إن»، تلك التي ادعى فيها - بحسب الشبكة - أن البشير قد وعده بإيفاء المركز في الشمال بديون البلاد - المقدرة ب(36) مليار دولار - حال انفصال الجنوب. غني عن القول هنا إن التصريح المنسوب للرئاسة كان يحمل مقومات نفيه من داخله، كون المهددات الاقتصادية لانفصال جنوب السودان والآثار السلبية للمسألة تجعل من الاستحالة بمكان تقديم هذا العرض الخيالي..!! تلك المهددات التي لن تقتصر إفرازاتها بالطبع على موجة غلاء طاحن تضرب أطنابها بالبلاد، بل ستتبعها موجات (إجرائية) كما تعدنا بذلك المالية. وكان تقرير أمريكي أصدره مركز التنمية العالمية (سي دي جي) في واشنطن توقع أن تقبل حكومة السودان فصل جنوب السودان بعد الاستفتاء على حق تقرير المصير أملاً في موافقة المجتمع الدولي على إعفاء السودان من بعض ديونه الأجنبية، وقال التقرير إن الإعفاء لا بد أن يسبقه قرار من الكونغرس الأمريكي برفع العقوبات الأمريكية، وأشار التقرير إلى قانون (سلام السودان) الذي أصدره الكونغرس عام 2002م الذي طلب من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وبنك التنمية الأفريقية (التصويت بقوة ضد أي قروض أو منح أو ضمانات إلى حكومة السودان)، وقال التقرير إن هذه المؤسسات تقدر على إعفاء السودان من بعض ديونه على الرغم من القانون، لكن (روح قانون الكونغرس تحتم تغيير القانون)، وقبل ذلك توقع التقرير أن يلجأ السودان بعد انفصال الجنوب إلى (نادي باريس) الذي يقدر على تخفيض ديون السودان كثيراً. ومن جهتها لمحت الحكومة الأمريكية بالمساعدة في تخفيض ديون السودان بعد الاعتراف بنتيجة الاستفتاء، وذكر التقرير أن تخفيض الديون (سيعتمد على اتصالات وتحركات بين حكومات ومؤسسات مالية عالمية)، فضلاً عن استيفاء السودان لشروط (نادي باريس) للدول (الفقيرة الأكثر مديونية). وحذر التقرير من أنه حتى إذا خفض (نادي باريس) بعض ديون السودان فإنه (سيظل جزء كبير من الديون الخارجية في الملفات والأضابير)، وقلل التقرير من أهمية مصير (أبيي) على موضوع الديون حتى بعد انفصال الجنوب، وذلك لأن أهمية المنطقة بالنسبة لإنتاج النفط وتصديره وعائداته انخفضت كثيراً بحسب التقرير. الجدير بالذكر أن عائدات البترول تشكل حوالي 45% من الإيرادات العامة في شمال السودان بحسب موازنة 2009م فيما تشكل 99% من الإيرادات للجنوب، ويبلغ إجمالي إنتاج البترول في السودان (480) ألف برميل يومياً بحسب ما صدر في شهر مايو 2009م، والحقول المنتجة في جنوب السودان تشكل 56% منه، فيما تشكل حقول منطقة (أبيي) 30% وتنتج الحقول في شمال السودان 14% من الإنتاج الكلي. وبخصوص تقسيم الديون بعد انفصال الجنوب قال التقرير إن على الدول والمؤسسات الدائنة للسودان أن تضع في الاعتبار أن اقتصاد شمال السودان (متنوع) بينما يعتمد اقتصاد الجنوب على النفط (اعتماداً كاملاً)، وزاد على أي حال (ستمضي ما بين ثلاث وأربع سنوات على الأقل قبل أن يستوفي السودان شروط تخفيض الديون الأجنبية عليه)، وفي ما يتعلق بطريقة تقسيم الديون قال التقرير إن (نادي باريس) سوف يصنف السودان حسب سابقتين وهما انفصال (بنغلاديش) و(باكستانالشرقية) عن (باكستانالغربية) سنة 1972، حيث تحملت (باكستان) العبء الأكبر في الديون الخارجية، أو في حالة تقسيم (يوغوسلافيا) إلى عدة دول في عام 1992، حيث لم تعد يوغوسلافيا موجودة، ويرى التقرير أنه في حال انفصال جنوب السودان يجب على حكومته أن تصير عضواً في المنظمات المالية العالمية قبل بحث نصيبها من الديون، وأن ذلك الأمر سيعقبه تقييم لقدرة كل جانب على دفع الديون، وأن تعمل (الخرطوم) و(جوبا) وتقدران الاستفادة من التقاليد المالية العالمية التي تقدم إعفاءات ل(الدول الخارجة من نزاعات). وفي سياق التعليق على المسألة يرى اقتصاديون استمعت إليهم (الأهرام اليوم) أن المهددات الاقتصادية ينبغي محاصرتها عبر الوصول إلى اتفاق بشأن البترول يتضمن المسائل المتعلقة بتحديد الآبار والحقول المنتجة لدى كل طرف، وهو أمر كان ينبغي إنجازه عبر ترسيم الحدود قبل الاستفتاء نفسه. الخبير الاقتصادي، د. عادل عبد العزيز الفكي، يرى وجوب تولي كل طرف إجراء تعاقدات منفصلة جديدة مع الشركات العاملة داخل حدوده، وتسوية الالتزامات والحقوق تجاه الشركات القائمة بإنتاج البترول في الحقول المشتركة، بحيث تنشأ حسابات منفصلة لكل شركة تتضمن حساب التكلفة ومصاريف التشغيل لكل بئر منتجة على حدة، أو الاتفاق على الإدارة المشتركة للحقول الممتدة على طرفي الحدود. الفكي - الذي دوّنا إفاداته قبل انطلاق عمليات الاستفتاء، ضمن ورشة مخاطر الانفصال وتداعياته التي نظمها المركز العالمي للدراسات الأفريقية في وقت سابق من الشهر الماضي - طالب بضرورة التوافق على سعر تفضيلي للخام المنتج في الجنوب، الذي يتم تسليمه لمصفاة الخرطوم أو أية مصفاة أخرى تنشأ في الشمال (مع الوضع في الاعتبار أن جزءاً من منتجات المصفاة كالبنزين يصدّر براً إلى إثيوبيا) مقابل سعر تفضيلي لنقل الخام الجنوبي عبر خط الأنابيب الموجود في غالبه في الشمال، وسعر تفضيلي لاستخدام موانئ تصدير الخام على البحر الأحمر (بشائر وميناء الخير)، وشدد على ضرورة الاتفاق على تبادل الخبرات في مجال الاستكشاف والتنقيب والإدارة، والاعتماد ما أمكن على عناصر الكيانين. في ما يلي أمر الديون الخارجية طالب د. عادل بضرورة الاتفاق بشأنها، بحيث يتضمن الاتفاق العمل سوياً في جهود مشتركة تستهدف إعفاء كل أو جلّ ديون السودان الخارجية التي تبلغ (أكثر من 30 مليار دولار) خصوصاً أن السودان كان مستحقاً للإدخال ضمن مبادرات معالجات ديون الدول الأقل نمواً بمعايير المؤسسات الاقتصادية الدولية، وأضاف أنه في حالة الفشل في الحصول على الإعفاء يتم حصر لكل القروض (بفوائدها) التي تم استخدامها لإقامة مشاريع تنمية بالجنوب، وتصبح التزاماً على الكيان الوليد بالجنوب، وشدد على ضرورة أن يتم الاتفاق على الإدارة المشتركة للمشاريع المشتركة العابرة التي مولت في أوقات سابقة بقروض خارجية، وهي (السكة الحديد، وطريق السلام، والنقل النهري، والكهرباء). وبحسب التقرير الأمريكي الذي سبق الإشارة إليه فإن السودان مطلوب منه خلال السنوات الثلاث المقبلة دفع أكثر من (ثلاثة مليارات دولار) هي عبارة عن فوائد وعقوبات على تأخير في الدفع، وأضاف أن الدول الدائنة (ستكون في مواقف حرجة وهي تريد استعادة ديونها بين الخرطوموجوبا)، وقال إن ديون السودان الخارجية وصلت إلى أكثر من (35 مليار دولار) وأن أكثر الدول توقعاً لتسديد الديون خلال السنوات الأربع المقبلة هي الصين التي ستدفع (ملياري دولار) والكويت (نصف مليار دولار) والسعودية (أقل من نصف مليار) وذكر التقرير أن جزءاً كبيراً من ديون السودان يعود إلى قبل ثلاثين سنة؛ إلى (عهد الرئيس السابق جعفر محمد نميري الذي حكم السودان لستة عشر عاماً تقريباً)، وأضاف التقرير أن السودان مدين لحكومة الكويت ب(ستة مليارات دولار) ولحكومة السعودية ب(ثلاثة مليارات دولار)، وأن أغلبية هذه الديون قديمة، وقال التقرير إنه خلال (الستينيات والثمانينيات) وقبل مجيء الرئيس عمر البشير إلى الحكم قدمت (السعودية والكويت) إلى السودان حوالي (60) قرضاً، وصرف معظمها في بناء طرق وبنيات تحتية، لكن بسبب مرور أكثر من (30) عاماً على هذه القروض وبسبب سعر الفائدة وعقوبات تضمنتها اتفاقيات القروض، أشار التقرير إلى أن قيمة قرضٍ كويتي كانت (مائة وثلاثين مليون دولار) من عام 1977م قفزت إلى قرابة ثلاثة مليارات دولار في الوقت الحاضر، وقال التقرير إنه اعتمد على أرقام من بنك السودان تؤكد أن كل ديون الصين هي ديون جديدة وتعود إلى عهد الرئيس عمر البشير وأن معظمها له صلة بصناعة النفط، وبجانب ذلك قالت (النرويج) إن دولاً غربية عرضت على السودان حوافز اقتصادية تتضمن رفع العقوبات الأمريكية وإعادة دمجه في البنك الدولي لإبعاده عن العزلة بعد انفصال جنوب السودان الذي سيتم في العام المقبل، وتعتبر (النرويج والولايات المتحدة وبريطانيا) من الدول التي قامت بدور أساسي في التوصل إلى هذا الاتفاق، وهي ضامن له، وفي هذا السياق قال نائب وزير الخارجية النرويجي (أسبن بارت أيده) ل(رويترز) إن الدول الغربية تركز بشكل متزايد على الحاجة إلى وجود حوافز واضحة لشمال السودان حال الانفصال، وأردف: «هذا يتوقف بالطبع على استعداد شمال السودان للمشاركة بطريقة إيجابية»، وأضاف أن رفع العقوبات والعودة إلى المؤسسات الاقتصادية مثل (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغيرهما من الاستثمارات) التي تخص السودان سيكون الحوار مستمراً حولها، ومضى قائلاً إن (النرويج) يمكن أن تساعد السودان على تخفيف عبء الديون الخارجية التي يتعدى حجمها (35 مليار دولار). ويرى مراقبون للشأن الاقتصادي أن السودان يمثل نوعين من الاقتصاد؛ اقتصاد متحرك في الشمال واقتصاد آخر راكد في الجنوب، الأمر الذي يشير إلى أن دلالات هذه الازدواجية تقتضي أن يأخذ إطار السياسات الاقتصادية الكلية في الاعتبار متطلبات اقتصاد ما بعد الصراع في الجنوب من جهة، ومتطلبات الاستقرار الاقتصادي لاقتصاد الشمال من جهة أخرى، ورأوا أنه بخصوص اقتصاد الشمال فإن صندوق النقد الدولي قد حدد أهدافاً مالية صارمة تهدف إلى تحقيق استقرار اقتصادي كلي وأن هذه الوصفة الاقتصادية ترمي لإحداث معدل نمو إجمالي الناتج القومي 7% لمدى عشر سنوات من أجل تخفيف الفقر إلى النصف في شمال السودان بحلول عام 2015. يذكر أن شمال السودان قد حقق هذه النسبة وفقاً لمصادر صندوق النقد الدولي ولذلك المطلوب هو الحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي. وفي هذا السياق يرى الخبير الاقتصادي د.عادل عبد العزيز أن مخططي برنامج الإنعاش الاقتصادي وإعادة الإعمار لما بعد الصراع قد حالفهم الحظ عندما تحدثوا في مجال تخفيف الفقر إلى النصف بحلول عام 2015م وهو أحد أهداف التنمية للألفية ويمكن تحقيق هذا من خلال اختلاف معدلات النمو لإجمالي الناتج القومي بين نوعي الاقتصاد للسودان، وأضاف: «قد رأينا ذلك الشق المتعلق بالشمال» وأشار إلى أنه يجب أن ينمو اقتصاد جنوب السودان بمعدل 30,77% في نفس الفترة ليحقق معدل نمو قومي لإجمالي الناتج القومي بنسبة 7,88% وهي النسبة المطلوبة لكل السودان حتى يتمكن من تخفيف الفقر إلى النصف بحلول عام 2015م وزاد: «عندما تترجم هذه الأرقام إلى متطلبات للاستثمار نجد أن السودان بحاجة إلى معدل استثمار سنوي يبلغ 34,2% من إجمالي ناتجه القومي حيث يستثمر شمال السودان 24,6% وجنوب السودان 227,1% من إجمالي الناتج القومي على مدى فترة عشر سنوات»، وفي إطار سياسة الاقتصاد القومي الكلي يجب أن يتم على أساس توسعي وسيكون من الواجب تحديد مصادر النمو في كل من الشمال والجنوب ومن المرجح أن تكون الزراعة والتشييد وقطاعات الخدمات بالإضافة إلى قطاع البترول الذي يعتبر من المصادر الرائدة في النمو الاقتصادي خاصة في جنوب السودان فضلاً عن تطوير القطاع الخاص وتدفق الاستثمار الأجنبي المباشر، وقال عبد العزيز إن جنوب السودان بحاجة إلى أن يستثمر أكثر من 200% من إجمالي ناتجه القومي لمدة عشر سنوات ليتمكن من تخفيض نسبة الفقر إلى النصف، ويرى أنه في ظل عدم الاستقرار الأمني في الجنوب فإن هذا يبدو هدفاً بعيد المنال خصوصاً أن الأزمة المالية العالمية ستخفض من المعونة الإنمائية الرسمية بقدر كبير. ولم تكن الديون الخارجية لوحدها هي التي تقف حجر عثرة أمام الدولتين (شمال وجنوب السودان) بل هناك إشكالات أخرى ذات طابع اقتصادي وهي قضايا (مياه النيل) والاتصالات ونطاق الترددات، التي تحتاج إلى اتفاق على استمرار شركات الاتصالات التي استثمرت في البنية التحتية في جنوب السودان بدون حاجة إلى تراخيص جديدة، (وهو ملف آخر كانت الأهرام اليوم قد جلست إلى السيد وزير الاتصالات للحديث معه حول همومه، وسيتم نشره في الأيام القادمة)، فضلاً عن الاتفاق على حركة الحيوان والحياة البرية وحمايتها من الاعتداءات، إضافة إلى الاتفاق بشأن التجارة العابرة واستخدام الموانئ والطرق البرية بالشمال، فضلاً عن ضرورة الاتفاق بشأن الحريات الأربع؛ (الإقامة، التملك، العمل والتنقل) للمواطنين بين شمال وجنوب السودان حتى لا تتأثر الدولتان بالأزمة الاقتصادية الناجمة جراء ما سينبئنا عنه المصير في كل الحالات.. ما قد كان وما سيكون!!