{ لا أعتقد أنها كانت على سبيل المصادفة، أن ينشد الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي يوماً ما، في التاريخ تلك الأبيات الشعرية الشاهقة التي تتغنى بالإرادة والحرية والكرامة.. إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر ها هو الشعب التونسي الجسور بعد عقود من رحيل الشابي يحقق «نبوءته الشعرية» ويقدم دروساً لشعوب الدنيا في ثقافة التحرر والانتفاضة لدرجة تجعل كل الرؤساء العرب يتحسسون مقاعدهم التي أصبحت تهتز من تحتهم. { وأستطيع أن أزعم بأن على العالم العربي على الأقل أن يؤرخ لعصر الشعوب بهذه الانتفاضة الشعبية التونسية، فلقد انتهى إلى غير رجعة عهد «الانقلابات العسكرية» التي تتحدث فيها الدبابات، ودخلنا بامتياز إلى التغيير عبر «أسلحة الشعوب»، وربما كان الشعب السوداني هو صاحب الامتياز في هذا الأدب، فلقد سبقنا الآخرين بصناعة انتفاضتين جهيرتين، فنحن قد بدأنا إنتاج هذه الصناعة، صناعة الانتفاضات، منذ مطلع النصف الثاني من القرن الماضي، وما فعلناه منذ عام 1964م ثم كررناه في أبريل 1985م، لم تتمكن الشعوب الأخرى من إنتاجه إلا بعد نهاية العقد الأول من هذه الألفية. { وثمّة متغيرات عديدة تجتاح منطقتنا، فالأمر لم يقتصر على الانتقال إلى «مرحلة الشعوب» فقط، فحتى ثقافة الشرعيات في طريقها إلى أن تتغير، كما لو أننا ندخل اليوم بامتياز إلى «شرعية الخُبز» والحياة، فلقد سئمت الشعوب العربية دعاوى شرعيات الأحزاب العربية المتهالكة التي لم تعد تلبي طموحاتها، فالشعوب تود أن ترى تلك الشعارات على أرض الواقع، لا أن تقرأها في الصحف، أو تنظر في النشرات الرسمية للمجهودات التي تُبذل، لكن أن تنعكس هذه المجهودات على الأسواق ومعاش الناس، على أن تخرج الشعوب في كل صباح إلى الأفران لترى «وزن حكومتها»، وزن الخبز، فهنالك علاقة طردية بين أوزان وأسعار الخبز وأوزان الحكومات، فإذا انخفض وزن الخبز، ينخفض وزن الحكومة في ميزان الشعب، وإذا انخفض سعر الخبز ترتفع أوزان الحكومة وأسعارها بين الجماهير، فأرني ماذا تملك أي حكومة من الخبز، أخبرك باستقرارها واستمراريتها. فنهاية أي حكومة مع آخر جوال دقيق تخبزه، وبين أيدينا تجارب سودانية حية، فكثير من حكوماتنا التعددية لم تسعفها شرعية النواب البرلمانية عندما خذلتها شرعية الخبز، فيفترض ألا يقل المخزون الإستراتيجي من القمح عن المخزون الإستراتيجي من التعدديات، فالحريات وحدها لا تُطعم الجماهير. { كنت أنصح حكومتنا المجيدة، ومازلتُ أفعل، إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن تستجيب المخابز، القصة كلها تبدأ من الحقول والمزارع، فالسودان البلد الزراعي الأول في العالم، راحت حكوماته المتعاقبة تصنع كل شيء إلا «الثورة الزراعية»، ونحن في المقابل غير مؤهلين لكل شيء إلا الزراعة، فليس لنفطنا وسدودنا وتخطيطنا قيمة إن لم يوظّف كطاقة في خدمة المشروع الزراعي، فنحن نحتاج أن نُعلن أن السودان دولة زراعية لنذهب مباشرة إلى بناء «السودان الأخضر»! هاتفني الأخ الأستاذ عمر الجزلي على إثر ملاذ زراعي باهظ نُشر الأسبوع الفائت، بأن الدكتور عبدالكريم الكابلي كان يحدثه عن ذات الأشواق بالتزامن، وذكر الأستاذ الكابلي أنه يمتلك شجرة ليمون في بيته وهو يعتني بها كثيراً، فهذه الشجرة المنزلية الوحيدة تلبي حاجة أسرة الكابلي من الليمون، ثم يوزع منها إلى الجيران، ويصل منها شيء إلى أسرة الأستاذ الجزلي بأم درمان. فماذا لو أصبح السودان كله «مزرعة كبيرة» من الليمون والقمح والورود والزهور. { بالله عليكم كفى «زراعة أسفلت وكباري»، فهذه مشروعات عهد الاكتفاء والرفاهية، ليصبح أمامنا خياران اثنان، إما أن نوفر كل الميزانيات والطاقات «لثورة زراعة عارمة».. أو... هذا أو الطوفان. اللهم فاشهد أني منذ شهور أبلغ القوم يومياً وأحرضهم على «الثورة الزراعية».