أيام قلائل تفصلنا عن الحدث الكبير والتاريخ المصيري، وذلك بعد أن باتت الإجابة على السؤال الكبير واضحة؛ عن هل سيبقى السودان موحداً أم سينقسم؟ كان الاعتقاد أن من يملك الإجابة على هذا السؤال ليسوا هم السياسيين ولا شركاء الحكم ولا النخب والصفوة هنا وهناك، وكان الاعتقاد أن الإجابة هي عند المواطن الجنوبي البسيط الذي من المفترض إن كانت هناك ديمقراطية وشفافية وابتعاد من العنصر الأجنبي؛ أن يكون هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في تقرير مصيره. القوى السياسية والأحزاب بمجملها تتعاظم مسؤولياتها خلال هذه الفترة الدقيقة والحساسة من عمر البلاد، في مقابل دول وجماعات ضغط ولوبيات وأهداف استعمارية حديثة تسعى جاهدة إلى خطف القرار السوداني والإحاطة به، لذا فإن وجود المحصنات من كل ذلك أمر لن يتأتَّى إلا بالوعي الجماهيري والسياسي، وتعميق مفهوم الثقافة الوطنية والحوار الإيجابي من الجميع، حاكمين ومعارضين. مساحة من النقاش حول هذا الموضوع الذي يشغل الساحة السياسية، ومواضيع أخرى تهم المسار السياسي، شكلت مداخل الحوار الذي أجريناه مع القيادي السياسي المخضرم الأستاذ بكري عديل، كبير رجالات حزب الأمة. وتطرق الحوار أيضاً إلى جملة من الموضوعات التي تخص الأداء الديمقراطي داخل أجهزة الحزب في أعقاب عودة مبارك الفاضل المهدي، والموقف من القضايا الساخنة التي تهم البلاد، فإلى إفاداته. { كيف تنظر إلى دعوة توسيع المشاركة في الحكم؟ الأحزاب، على لسان الصادق المهدي، محقة في دعوتها الحكومة إلى العمل لتشكيل حكومة قومية تشارك فيها كل التيّارات السياسية، فيما يتحدث أهل الحكومة عن قاعدة عريضة يكون الحزب الحاكم مسيطراً عليها، وبالتالي هناك اختلاف في الرؤية والطرح بين دعوة الحكومة ودعوة المعارضة، فالمطلوب إذن حسب المعطيات ألا تكون هناك غلبة من فئة على أخرى، وبالتالي يأتي الاختلاف هنا، وأنا أعتقد أن المعارضة معيبة في هذا الموقف، وعليه فلا بد من حكومة قومية تسهم فيها كل الأحزاب، لها قاعدة عريضة، حتى تخرج الحكومة بتركيبة متوازنة تنال رضا الجميع. كذلك هذه الخطوات كان من الواجب أن تحدث منذ وقت مبكر لأن الوقت بات ضيقاً للحديث عن هذه المسائل بحرية وعمق أكثر، وبالتالي فإن النقاش حول هذه الأمور يحتاج إلى وقت طويل حتى يتم عرض كل وجهات النظر. المسألة الأخرى في المشهد السياسي، أرى أن الإخوة الجنوبيين من أهل الحركة الشعبية قد تعمقوا في خلق الأجواء غير المؤاتية التي تجعل الحديث عن الوحدة في مقابل الانفصال يصبح حديثاً غير ذي معنى، مما يجعل الحديث عن الوحدة مستقبلاً في السنوات القادمة أمراً صعباً. { ما هي نصائحك الآن للطرفين؛ الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني؟ حقيقة إذا كانت النتيجة النهائية كما تلوح هي الانفصال فهذا يتطلب إحداث علاقة قوية مع الشمال، لأن الجنوب ما يزال يحتاج إلى الشمال كثيراً. { هل تعتقد أن الدولة الجنوبية إن قامت بهذه العجلة ستواجه مستقبلاً صعباً وانهياراً وشيكاً؟ بالتأكيد انهيارها سيكون وشيكاً لأسباب كثيرة وعلى رأس هذه الأسباب القبائل التي يتشكل منها الجنوب، فهي متنافرة وليست جميعها على وئام وليست جميعها متفقة على قصة الانفصال، فهناك من يريد الانفصال حسب التصويت الذي تمّ، ولكن هناك من لا يفهم حتى هذه اللحظة معنى الانفصال، ولهذا فهناك عائق كبير سيواجه الجنوب حال الانفصال. شيء آخر أيضاً وكما ذكرت يتعلق بالقبائل التي ما زالت بدائية وبالتالي يصعب هناك فهم ما يواجه المواطن في الدولة الحديثة مما يتطلب جهداً ضخماً جداً وتكلفة عالية حتى ينتقل المواطن الجنوبي من الحالة التي هو عليها إلى مواطن يستطيع التعامل مع الدولة الحديثة، فهذا كما قلت يحتاج إلى وقت وجهد وعلاقات واسعة. أيضاً هناك إشكالية أخرى تكمن في أن الجنوب هو مطمع لكثير جداً من الدول التي من حوله، وكثير أيضاً من القوى العالمية التي تساند الآن الانفصال. { إذن، في وجود العنصر الأجنبي صاحب المصالح المتضاربة، هل يمكن للجنوبيين أن يجدوا أنفسهم غرباء في وطنهم بحيث يصبحون مواطنين من الدرجة الثالثة هناك؟ بالتأكيد سيجدون أنفسهم في الدرجات المتأخرة لأن جميع الدول الاستعمارية ستتكالب على الجنوب، وكما قلت إن أهل الجنوب ما يزالون يحتاجون إلى وقت كبير حتى يتأقلموا على فهم متطلبات الدولة الحديثة. فكل هذه الأسباب مجتمعة ستجعل هناك عدم رضا وعدم ترحيب من القوى التي ستدير البلاد وعدم معرفة وإغراء للطامع في ثروات الجنوب على اللعب بحرية هناك نسبة لانعدام الرقيب والمكوّن الواعي القوي الذي يحيط بالأمور هناك، وأفريقيا نفسها باستثناء بعض المناطق ما زالت ترزح تحت التخلف. { كيف هو تقييمك لآخر مواقف المسيرية في أبيي؟ حقيقة أنا أعرف هذه المنطقة جيداً لأنني عشت فيها، فالمسيرية لا يستطيعون الاستغناء عن أبيي فهي بالنسبة إليهم شريان حياة، والتداخل الذي تم بين المسيرية والدينكا اجتماعياً في هذه المنطقة لا يوجد له مثيل في السودان. { هل تستطيع أبيي أن تخرج بقرار من يد المسيرية؟ هذا هو مكمن الإشكال، ذلك أن القوى الموجودة هناك من مسيرية ودينكا تكاد تكون متساوية في وجودها في أبيي وفي إمكانية مقاومتها لأي قرار لا يتوافق مع مصالحها، ولكنّ هناك فرقاً بين المجتمع الدينكاوي والمجتمع المسيري من حيث الإمكانيات. { هل نذهب بالقضية مرة أخرى إلى التحكيم الدولي؟ العامل الدولي لن يحل مشكلة أبيي ولا أمريكا ولا غيرها، فالحل يكمن في التفاهم بين الطرفين، وفي قديم الزمان كان هناك تفاهم وكم شهدت وحضرت مؤتمرات كثيرة تمت بين المسيرية والدينكا وتم التوصل من خلالها إلى حلول لبعض القضايا هناك، فأبيي تحتاج فقط إلى حل مسيري دينكاوي وليس إلى حل أمريكي بريطاني. { هل نقول إذن للطرفين؛ الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني، أن يبتعدا من هذه القضية أيضاً؟ نعم على الطرفين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني أن يبتعدا من هذه القضية ويتركان حلها لأهلها وهم قادرون على ذلك، فإذا تركاهم يتفاهمون مع بعضهم البعض يمكنهم أن يصلوا إلى حل لأن مصالحهم المشتركة تقتضي ذلك. { مؤخراً عاد مبارك الفاضل إلى حزب الأمة، ما هي دلالات هذه الخطوة حسب ما تعتقدون؟ حقيقة الظروف السياسية والأجواء التي تعيشها البلاد تحمل الكثير من المشاكل والمخاطر التي تهدد سلامة المواطن وأمنه واستقراره، ولذلك كان من الضروري أن يفكر الجميع في توحيد الصفوف خاصة وأن القضايا العالقة الكثيرة التي يتحدث عنها الناس تحتاج إلى وفاق وطني متجرد من أي نوازع شخصية، وحتى يتم الوصول إلى ذلك لا بد من أن تبدأ الأحزاب في توحيد صفوفها وتحقق وفاقها قبل كل شيء. ولكن أقول إن هذه الخطوة جاءت متأخرة فكان من الأحرى أن تتم منذ وقت مبكر وتشمل كل الكيانات السياسية التي انشطرت. { هل عودة مبارك الفاضل يمكنها أن تفتح الباب لعودة الآخرين؟ ينبغي أن تفتح الباب هنا لعودة الآخرين ولكن هذا يعتمد على تفهم الأطراف المختلفة لمعنى الرجوع إلى بوتقة الحزب الواحد. { هل تعتقد أن الأداء الديمقراطي في حزب الأمة قد تطور حتى يصبح قبلة لمن خرجوا ليفكروا في العودة أم ما زال هناك إعياء في مسيرة الأداء الديمقراطي داخل هذا الحزب؟ لا أحد ينكر أن حزب الأمة في داخل صفوفه هناك مشاكل، وبعض هذه المشاكل تحتاج إلى معالجة قبل القدوم، والتفكير في خلق كيان ديمقراطي يلتزم مبادئ الديمقراطية والعمل السياسي الفاعل، وهذا ما أشار إليه الناس منذ زمن بعيد، بل وأشاروا إلى ضرورة مراجعة الكثير جداً من نواحي النشاط والعمل السياسي داخل حزب الأمة سواء أكان وضعه القيادي أم التنفيذي أو كان دستوره ولوائحه وتمويله وعلاقة جماهيره كقاعدة بالقيادة، فهذه جميعها أشياء كانت تحتاج إلى مراجعة وأُشير إليها في كثير جداً من المناسبات، وعلى الرغم من أن المظهر العام لضرورة المراجعة وقبولها كشيء أساسي في مسيرة تطوير الحزب إلا أن شيئاً من ذلك لم يتم، والآن ظروف السودان وما يهدد البلاد تستوجب من الناس أن يعيدوا النظر في كثير جداً من الأشياء التي من ضمنها توحيد الصفوف، والرجوع إلى القواعد، فلا ديمقراطية ولا مشاركة شعبية يمكنها أن تتم في الأمور العامة والسياسية إلا إذا سعى الناس إلى خلق أجهزة منتخبة عن طريق وعي سياسي وتقييم للكيانات التي تمثل قواعدها، فهذا الطريق هو الذي يقود إلى تحقيق ديمقراطية سليمة تعيد التوازن. ومن هنا نرحب بالخطوة التي تمت بين مبارك الفاضل والصادق المهدي التي يجب أن تستنفر الآخرين ليفكروا في إجراء مماثل ونتمنى أن تكون هذه الخطوة صادقة ونافذة حتى لا تكون من باب المظهر السياسي فقط، وكما قلت لك إن البلاد تواجه خطوة تستدعي أن يتناسى الجميع الخلافات مهما كان حجمها. { هل تعتقد أن السيديْن؛ محمد عثمان الميرغني والصادق المهدي، محتاجان إلى أن (يفكفكا) عباءة الطائفية قليلاً والبيوتات في تشكيل حزبيهما حتى يصبحان قبلة للآخرين؟ بالتأكيد هذا شيء ضروري ومهم، وأنا لا أقول إن هذه الظاهرة قد تختلف من مجموعة إلى أخرى، ولكن ما أريد قوله من هذا الحديث ألا يفهم الناس أننا ضد الطائفية أو التكتلات الدينية، فما نقصده هنا أنه من الضروري جداً أن تكون الممارسة السياسية خالية من أي نفوذ خارج إطار العمل السياسي، والعاملون في الحقل السياسي يجب أن تتاح لهم الفرصة الكاملة في الحديث عن أي شيء لمصلحة الشعب ككل، وبالتالي من يمثل الشعب يجب أن يأتي عن طريق الانتخاب وليس عن طريق وصاية أو تفويض فيه قدر من القداسة والتدجين، وهذا ما هو مرفوض.