{ لمّا كانت الروائية الجزائرية جهيرة السيرة، الأستاذة أحلام مستغانمي، تعكف على كتابة إحدى رواياتها، كانت تخرج من عزلتها تلك عند المساء لبضع دقائق لتسأل سؤالين اثنين: هل تزوجت زهرة من بطل المسلسل، وهل عثروا على أسامة بن لادن! { وأمتنا العربية تستيقظ هذه الأيام مبكرة لتسأل سؤالين اثنين: هل أُطيح بالرئيس مبارك؟ وهل قبضوا على زين العابدين بن علي. فهنالك على الأقل طلب لدى الشرطة الدولية لاسترجاعه! { وبالمناسبة، هذه «الثورات الشعبية» قد اكتشفها الشعب السوداني قبل نصف قرن من الزمان، بحيث احتاجت الجماهير العربية لكل هذا الوقت لتكتشف هذه (المفاتيح البلدية) لحل ماكينات حكوماتها، ونحن قد تجاوزنا هذه الثقافة لدرجة أن هذه المفاتيح أصبحت بالية وغير قادرة على حلحلة صواميل الحكومات السودانية. { قال أحد اليساريين السودانيين منذ فترة: إننا نحتاج إلى مفتاح (أفرنجي) لحل صواميل ماكينة الإنقاذ، وذلك بعد أن أعيتهم حيل (المفاتيح البلدية). والقصة كلها تكمن في أن قادتنا متصالحون مع شعبهم، فأول أمس كان يفصل بيني والأستاذ علي عثمان نائب رئيس الجمهورية مقعدان، ونحن يومئذٍ على متن بص سياحي مؤجر (بص أفراس)، فتجولنا لنصف يوم بين مجموعات من الجماهير في تلك الحقول والبيادر، وبالأمس القريب أيضاً كان المشير البشير يلتحق بالجماهير، الجماهير التي سدت كل أفق دامر المجذوب، وما أدراك ما دامر المجذوب، الدامر التي بمثابة «ذاكرة إرث وثقافة السودانيين» والرئيس الذي تجيزه الدامر لا يحتاج لإجازة أخرى. فالدامر لا تخرج في أسبوع واحد مرتين: مرة للرئيس ومرة ضده! { فالشيء بالشيء يذكر، مرة كنت أدخل على أحد الولاة بالدامر، وهو قد جيئ به من خارج الولاية، وقصد الرجل أن لا يحسن استقبالي، وربما كان يعاقبني على مقال نُشر قبل أسبوع تحت عنوان «هذه الولاية الأرملة»، فخرجت لأكتب مقالاً للمركز، على أن يحترم خياراتنا وثقافتنا، فالدامر عبر تاريخها عُرفت بالكرم كما لو أنها ديوان الولاية الكبير، فالذي لا يحسن إكرام الأضياف فهو بالأحرى يسيئ إلى هذا التاريخ ويسيئ للدامر نفسها التي اشتعل قنديل فضائلها من تاريخ عربي موغل في المروءة والتاريخ والقدم: أُضاحِكُ ضَيفي قَبلَ إِنزالِ رَحلِهُ وَيُخصِبُ عِندِي وَالزَمانُ جَديبُ وَما الخِصبُ لِلأَضيافِ أَن تُكثِرَ القِرَى وَلَكِنَّما وَجهُ الكَريمِ خَصيبُ { فالدامر، على سبيل المثال، ليست كالسويس ولا الإسكندرية، فقد استوفت تلك المدن المصرية العزيزة كل استحقاقات الثورة، في بلاد لا ترى رئيسها إلا في التلفزيون، الرؤساء هنالك يعيشون في قصور معزولة عن الجماهير مسيرة عشرات الكيلومترات من أنفاس العامة. { فلكي تصنع ثورة في السودان تحتاج إلى أن تخرج معك بورتسودان عن بكرة أبيها، وتخرج الدامر وشندي ومروي، حتى تتمكن قناة الجزيرة من زرع شبكة مراسلين في مجموعة مدن سودانية، لكي يثمر ذلك الزرع. { وللذين يقرأون بتطرف، أنا لا أقول إننا نعيش عهد الرفاهية، وربما لم نبلغ حد الاكتفاء بعد من ضروريات الحياة، ولكن هناك مجموعة مسوغات تجعل الجماهير تمارس المزيد من الاصطبار، أول هذه المسوغات هو أن هؤلاء الذين يقفون على «باب الثمانينات» ويحتفلون بأعياد ميلادهم بعد الثمانين، هم الذين يتربصون بنا للمرة الخامسة، فقد حكمونا قبل مايو وبعد مايو، وفي أبريل وفي أكتوبر ويونيو، وربما لم يَخْلُ كشف شهر سوداني، وثوراتنا قد غطت كل الشهور، لم يَخْلُ كشف حكومة من أسمائهم، فقط مرة يظهرون في خانة المعارضة ومرة في خانة الحكومة. { ليس هذا فحسب، بل ليس لهم «قمح ولا نفط ولا دثور». { مخرج: أنا شخصياً لن أخرج لأتوِّج السيد فاروق أبو عيسى رئيساً للسودان، فهؤلاء قد سئمت صفحات التاريخ من ترديد أسمائهم.