{ أضاحك ضيفي قبل انزال رحله ويخصب عندي والمحل جديب فما الخصب للأضياف أن يكثر القِرى ولكنما وجه الكريم خصيب { حالة قريبة من ذلك، قريبة من حال هذا (الإعرابي العبقري) الذي أنشد هذه الأبيات، اجتاحت الدكتور عبد الرحمن الخضر، والي ولاية الخرطوم المنتخب، وهو يشرح لنا بمكتبه ظهيرة الأربعاء الفائتة مشروع استيعاب بعض الخريجين، أو قُل مشروع فتح خمسة آلاف وظيفة بولاية الخرطوم أمام خمسين ألف متقدم، أو بالأحرى يتنافس كل عشرة خريجين على وظيفة واحدة، ويبدو الدكتور الخضر في هذه الحالة تماماً كذلك الإعرابي (ويخصب عندي والمحل جديب)، وبرغم أني أستطيع أن أوثق حالة (أضاحك ضيفي قبل انزال رحله) على أسارير السيد الوالي، لكني في المقابل غير متأكد من أن الشطر الآخر من البيت يعبِّر عن حالة أولئك الخريجين، الخريجون الخمسون ألف، وأعني تحقيق هذه الشطرة من البيت الذي بناه الإعرابي بعد تحويرها، (فما الخصب للخريجين أن تكثر الوظائف)! غير أن عبقرية هذه الخطوة تكمن في شيئين اثنين، أعني تميُّز مشروع وظائف الولاية، فلقد تميّز هذا المشروع الاستيعابي بأنه كان مُعطّلاً لعقد من الزمان الإنقاذي، بمعنى آخر أن القطاع العام بولاية الخرطوم لم يوظّف خريجين منذ عشرة أعوام، ويبدو الأمر هنا كما لو أن القطار المعطّل منذ عشر سنوات الآن يتحرك!. صحيح أنه بالكاد الآن يعبر محطة واحدة، إلا أنه (لابد من صنعاء التوظيف وإن طال السفر)، وأهلنا يقولون (مع كل حركة بركة). إنه العشم بعد الانتظار الطويل، العشم لدرجة الغناء (قطار الشوق متين ترحل تودينا.. نزور بلداً حنان أهلها وترسى هناك ترسينا، وكان حرّكت عجلاتك.. وكان بدرت في الميعاد.. وكان نسيت محطاتك)، على أن أزمة توظيف الخريجين ظلت واحدة من الأزمات المعقدة، خاصة أن الثقافة المتوارثة لمعالجة هذا الأدب، قد بُنيت على مبدأ (على الحكومة تقع مسؤولية استيعاب كل خريجي جامعاتها، ولماذا أصلاً صنعت الحكومة هذه الجامعات التي تصل مخرجاتها في العام الثلاثين ألف خريج)؟! وهنالك شيء اسمه (القطاع الخاص) قد سقط سهواً من ذاكرة الشعب والحكومة معاً، فيفترض أن الحكومة لا تعامل القطاع الخاص وشركائه كما تتعامل مع المعارضة و(أحزاب جوبا) فتضيق عليه. كما يفترض في المقابل، أن يستدرك القطاع الخاص بأنه جزء من العملية الوطنية الاقتصادية، وعليه أن يساعد في عمليات التوظيف والإنتاج وصناعة المستقبل والأمل والأشواق. غير أن عبقرية هذه الخطوة، خطوة إقدام الولاية على كسر جمود التوظيف، تكمن في ذلك القسم العظيم الذي أُخضعت له لجنة الاختيار لتبدو هذه الثقافة التي أسست لها الولاية كعلامة فارقة بين (عهدين إنقاذيين)، على أن القوم، (قوم شيخ علي)، قد غادروا إلى غير رجعة محطة (حكومة الجماعة) التي يسعى بذمتها أدناها وهي يد على من سواها، غادروها إلى (حكومة الشعب السوداني)، حكومة الأربعين مليون سوداني، فالجماهير التي حملت المؤتمر الوطني إلى سدة الحكم من جديد، كانت بحاجة عاجلة إلى عمليات تطمينات هائلة بأن الحكومة المنتخبة مستعدة لدفع هذه الاستحقاقات، استحقاقات (جمهرة الإنقاذ)، إنقاذ الجماهير وتوظيفهم، دون الرجوع (لتزكية الجماعة والحزب والجهة واللون والعطر)، وهذا الصوت صوت الشعب وهذا الشعب شعب مسلم، وكانت الخرطوم أولى بهذه الخطوة من أخواتها الريفيات، فسودنة الثقافة تصنع هنا في الخرطوم، فالشرق أتى.. والغرب أتى.. وتلاقت قمم يا مرحى، تلاقت هنا في الخرطوم الكتف بالكتف والحافر بالحافر. سيدي عبد الرحمن الخضر، هذه خطوة لا تخلو من عبقرية، أن تبتدر (عهد الجماهير) وتقابل الاستحقاق الانتخابي بهذا (القسم الحيادي)، على أن الجماهير سواسية أمام الوظائف والقانون، حتى نذهب ونحن مطمئنون إلى حكومة الشعب السوداني المرتقبة، ليصبح الأمر أكبر وأعظم من خمسة آلاف خريج، بل أنه لعمري مشروع استيعاب شعب بأكمله في العملية الإنقاذية.