لا تقللنّ أبدا من قوة الغفير باعتبار ترتيبه المتأخر في هرمية أي مؤسسة أو مكان عمل، حيث يقال (من المدير إلى الغفير)، فمعرفة قدرة المدير لا تتطلب ذكاءً خارقاً في تعيين ورفد وتطوير وتقريب - وتغريب - من يريد من العاملين. لكن معرفة قدرة الغفير، تتطلب لا شك..! فنظرية حارس العقار التي تعرّف الغفير بأنه الحارس الأمين على كافة أشياء ذلك العقار، تتطور حينما تعرف أن الأشياء المقصودة تتضمن الأرواح والأعمال وكذلك الأسرار! وسر نجاح العمل السينمائي الكبير للنجم الراحل (أحمد زكي): (البيه البواب)، هو تمحوره حول أهمية وقدرة الغفير في السيطرة على حيوات الناس المتكفل هو بحراسة مكان حياتهم أو عملهم، فكان هو من تثق فيه المرأة لمعرفة ماذا يفعل زوجها في غيابها.. والعكس، وتحتاجه من لا تملك رجلاً ليقضي لها حاجاتها المادية والمعنوية.. فرفع ذلك ليس من قدرته المادية فقط، إنما قوته في تعليق مصائر ونهايات وبدايات، وبالطبع قدرته المعنوية. ومعنى كلمة خفير تأتي من خفر، وهي باللغة العربية تعنى حمى - خفر الشيء أي حماه - فلهذا: خفير تعني حارس، وتتم قولبتها بحسب لهجتنا السودانية لتصبح (غفير)، وهو الحارس المستيقظ ليلاً حينما تنام العيون، والمتيقظ نهاراً حينما تنام الضمائر..! وكان (الغفير) ذات زمان ذا شهرة واسعة جداً في المستشفيات، حيث يتكفل بدخول وخروج الزائرين ويتورط في الرشاوى لتلك المهمة، بجانب مهام أخرى تكون في ذات مجال الحراسة لكن لأغراض أخرى تماماً..! وغفرا المصانع أيضاً والشركات الكبرى والمصالح الحكومية، الذين كانوا يمثلون موظف الاستقبال لتلك الأماكن من حيث قوتهم في إدخال وإخراج الناس، وكان (الغفير) هو الوحيد الذي يتصل بالمدير مباشرة بلا سكرتارية ومدير مكتب، حيث أنه كذلك يحفظ من دخلت لذاك المدير ومتى وكيف وربما ماذا أيضاً؟! وأيضا كانت قوة (الغفير) تسيطر على علاقاته مع زملائه في العمل، يطلبون ودّه ليسمح لهم بالخروج متى ما شاءوا - في زمان لم تخترع فيه البطاقة الممغنطة والبصمة - كما غفير المدرسة الذي كان هو المدير الحقيقي لها، والمعلم الذي يدير رؤوس التلاميذ بما يريد من معلومات.. ورشاوى.. (كان غفير مدرستنا المتوسطة، حينما لم تجنُّ وزارة التربية والتعليم بمرحلة الأساس هذه.. كبيراً جداً في سنّه، غير متزوج لرفض أهله في إقليمه البعيد عمله بالخرطوم، بجانب قصة ثأر قديمة أيضاً، فكنا بعد حصولنا على هذه المعلومات الهامة نرشيه بمجلات (سمر) اللبنانية - وهي القناة المدبلجة للغراميات وقتها - فنخرج مع حصة الفطور، ومدرستنا داخل حينا السكني، لنشبع في صواني فطور الأمهات المحلاة بقراصة السكر والسمن، خادعات إياهنّ بأن المديرة هي التي أخرجتنا، ونعود، وما زالت (سمر) مخفية تحت (عرّاقيه) ينظر إلى فتياتها اللبنانيات بحسرة عمر ومكان وضيق ذات قدرة، يفتح لنا باب المدرسة بحذر شاكر لفسحة النظر التي أتحناها له مجانا..!). والمقابل المادي لرشوة (الغفير) تختلف باختلاف المطلوب منه، ولا شك محل خفارته، تبدأ من وجبة دسمة ولا تنتهي إذا كان جشعاً.. وما يشجع عليه (الغفير) نفسه. وما يذكر ضمنا أن معظم الخفراء يمتهنون أحيانا مهناً جانبية لمساعدتهم على تحمل صرف الأبناء والمعيشة داخل مكان مختلف الاحتياجات، وحيث أن عمل (الغفير) الأساسي يبدأ ليلاً فإن النهار يملكه ليسرح فيه برزق يسير باختلاف مهاراته وضميره، فهناك من يستفيد من خاصيته كغفير ليدير ما تيسر له من أفعال ومقاولات وبيع وسمسرة.. الخ، وهناك من يستفيد من دراسة الخلوة بإدارة نشاط (فكي) يكتب ويمحى ويطلسم ما شاء له المكان من زمان..! و(زمان) كانت للغفير هيمنة لا تخطئها عين، في كافة المؤسسات الحكومية والخاصة. أما الآن، وبالتحولات الوظيفية من معاش ورفد للنظاميين، وما شرعته تلك من مهنة جديدة لضابط أمن حارس لهدفه الاستراتيجي، فإن (الغفير) أصبح يتمحور عمله حول المنازل الكبرى لرؤوس الأموال والعقارات الجديدة غير مكتملة الإنشاء - لحراسة مواد بنائها – والمدارس، ولو أنها تحولت فيها إلى أنثوية أكثر - (الغفيرة) - لزيادة الأمان والضمان بعدم ممارسات خاطئة وغير مسؤولة. ومسؤولية بعض رجال الأمن - غير المختفين كما كانوا (زمان) - تحتم عليهم أن يكونوا (الغُفَرَا) لهذه البلد، يعرفون (الدخل منو والمرق منو)، حراسا أمينين على مالها وعرضها وشوارعها وناسها وأسرارها، وأن لا تتم رشوتهم فتكون بلداً بلا خفر..!