تعشق ( زبيدة) الأسواق الخلفية تلك، التي تأتي بما لا يخطر ببال مشتر، ليس لأنها من هواة جمع الأشياء القديمة، إنما لأنها من حفاة الثروات الجديدة، مواطنة درجة ساحقة تعمل بدوام نصفي ك (دلالية).. والنصف الثاني ك (دلالية) كذلك لكن لأبنائها! اكتشفَتْ بحكم ونسة الأفواه المفتوحة على رغبة الحديث لا أكثر، أن بمنطقة طرفية لا تبعد كثيراً من مكان سكنها، حيث تسكن هي في جنوبي الخرطوم بمنطقة مشهورة بعشوائيات منظمة، أن هناك سوقاً يحوي العجب، فحزمت أمتعة أرجلها نحو الطواف فيه.. وفيه وجدت ما لم تحسب أنه حقيقة، أكل الفنادق ومشروباتها وشامبوهاتها وكريماتها.. ومن شدة جرأة المفاجأة على قلبها تذوقت ما ظنته أنه خيال - وكانت أول مرة تتذوق فيها الكستليتة - ولكي يزيدها الزمان مجاملة كان السعر تحت مستوى ظنها، بخمسة جنيهات فقط اشترت مخزون ثلاثة أيام من الوجبات الثقيلة، ثم طفقت تجوب السوق بحثاً عن الخيال الممكن، فوجدت من كافة المأكولات المعدة فندقياً وغيرها، وجميع معدات الطعام وكافة مستلزمات التجميل و.. كل ما تشتهيه النفس والعيون وفي متناول الجيوب! و(جابت) سوق (بروس) إلى (حلتها) بذكائها كتاجرة قطاعي تبيع الأطعمة وبقايا الوجبات الفندقية لربات البيوت المفتوحة على باب الله، يشكرنها لأنها تبيع لهم رخيصاً وبالأقساط ما يرونه على الفضائيات اليومية، وتجعل أبناءهم لا يتلذذون بلعابهم حينما يعلنون عن (دانيت) أو( داناو)، بل يعيشون لحظة الحلم حقيقة، وبسعر يتناسب مع مكانتهم الاجتماعية كمسحوقين حتى في المتعة. ومتعة سوق (بروس)، وهو سوق حقيقي ليس من نسج خيالي المريض أو الآمر بالسوء، يقبع منشراً على منطقة طرفية في الخرطوم مشتهراً برخصه أكثر من سوق (ستة) الذي كان ذات زمان سوق (المرحوم قدرك) الشهير، حيث اشتهر ببيع الملابس القديمة أكثر من الأشياء الاخرى. لكن ما يتمتع به سوق (بروس) من (غيريَّة) أنه تخصص في المأكولات الجاهزة، حيث يمكنك دخوله جائعاً والخروج منه بشبع فندقي! ناهيك عن وجود المأكولات الجافة والشعبية، وهو آخر صيحات موضة الفقر والتدني الاجتماعي في السودان، حيث أن الفنادق تتخلص من بقايا طعامها هناك، ولها سماسرة طعام يقومون بما يتوجب عليهم لتخليصها منه، برميه في بالوعة (مصارين) أولئك الفقراء، وبنسبة ربحية لا تضر أبداً، بل تنفع وتفتح استثماراً من نوع آخر في هذا البلد الذي يفكر فقراؤه بطرائق مبتكرة لسد جوعهم، لدرجة شواء رؤوس الدجاج وأرجله لتحسب وجبة تسد فاه معدته - وربما تؤكد مصداقية السيد والي الخرطوم بأن الدجاج سيصبح وجبة الفقراء، دون تفصيل لأي منطقة في الدجاج يقصد! والمقصود من السوق وتسميته - بحسب استطلاعي - كان الترويج لرجل نزل في انتخابات هناك وقام بتوزيع المأكولات الجافة طبعاً ليرغب الجمهور فيه، ثم يعود ذات الجمهور مساء لبيعها لمن لم يحضر التوزيع المجاني، وبسعر مناسب، فسمي تيمناً بالرجل، حالما انتهت موضة الانتخابات وعادت مياه الفقر إلى مجاريها. وجزء يقول إن التسمية ب (البروس) للنبت الذي يخرج على الماء جذور ويطلق على معدوم الأصل في كل شيء، كما هو معروف في الشعبية السودانية.. حتى ظهر من يبيع ليلاً بقايا الطعام حتى لو كان مقضوما قليلاً.. ويلقي بالبضاعة منتهية الصلاحية على قارعة رواكيبه حتى ولو أصابتهم بالتسمم.. ويفتح مجالات جديدة للتجارة ببيع المأكولات الجاهزة.. بطريقة (دليفري) المساكين. ومسكنتهم تكمن في عدم معرفتهم بالحقوق الأولية للإنسانية، حتى ولو كانوا راضين عن أكل بقايا الأفواه الفخمة التي تشبع بقضمة من طبق يفوق سعره دخلهم الأسبوعي، حتى لو كانوا يتلذذون بوجبة جلد الحيوانات على أنها وجبة دسمة واقعة القبض على صاحب محل مأكولات يبيع جلود الحيوانات على أنها لحمة محمرة - تنتهي في زمن قياسي ليسر سعرها! إنه سعار الجوع الذي أوصلنا لمتابعة بيع وشراء وأكل بقايا الأطعمة الفاسدة والسكوت عنه عمداً لأنهم في نظرنا الاجتماعي (حثالة) وأطراف الأطراف التي لا تعنينا، وهو ما سيحول يوماً كل السواق الى (بروس) عسى ألا تكون جلودنا هي الوجبة!