{ كثيراً ما حمدت الله أن سبَّب لي الأسباب ووضع في طريقي من مدَّ لي يد العون لأمتهن الكتابة بكل ما حققته لي من مكاسب، غير أن ذلك لا يعني أبداً أنني قد شعرت يوماً بالتميُّز في المجال، فلا زلت ألتقي العديد من النماذج في إطار العمل التي ترغمك على التواضع من فرط ثقافتها وسعة إدراكها غير أنها تكتفي بالبقاء خلف الكواليس، وربما كان هذا من مصلحتنا؛ فلو دخلت حيز المنافسة فقد نفقد مصدر رزقنا ونخرج من دائرة الضوء لا محالة. { وكمثال على ذلك، أعرفكم اليوم على الزميل «عثمان الطيب» وهو أحد الجنود المجهولين داخل «لاب» «الأهرام اليوم» الفني، الذي يتحمل أعباء ربطي بكم عبر أصابعه التي تجتهد يومياً في «جمع» مادة «اندياح» بكل الرهق الذي يكابده مع أخطائي اللغوية وحروفي العصية. والحقيقة أن هذا «العثمان» الذي جمعني به العمل وقرَّبني منه «الاندياح» مع كامل احتفاظه بحيز الاحترام والكياسة وإحساسي تجاهه بالود والامتنان، بدأت أكتشف فيه مؤخراً، من خلال حواراتنا القصيرة، بُعداً فلسفياً بأبعاد ثقافية عميقة تؤهله ليكون صاحب قلم قوي، غير أنه اختار الفضاء الإسفيري مجالاً له. وقد حدثني يوماً عن الفطرة والغريزة، فشعرت بالتقازم من فرط ما أسهب في الحديث عن فكرة كنت أخالها لا تتجاوز السطر الواحد، فساقني حديثه الشيق هذا نحو سلسلة من الأفكار والبحث عن علاقة العديد من التفاصيل والأبعاد الإنسانية بالفطرة أو الغريزة حتى بات الأمر أشبه ما يكون بهواية محببة أمارسها وأنا أتفرَّس في وجوه الناس وأراقب ردود أفعالهم لأصنفها ضمن إحدى القائمتين: «الفطرة أو الغريزة». { وللعلم، فإن الفرق بين الاثنتين بسيط؛ فالفطرة تتسم بالانضباط النوعي، بينما الغريزة لا تزال ترزح تحت وطأة البهيمية. لهذا يحدثنا ديننا الحنيف دائماً عن الإسلام بأنه دين الفطرة؛ لما يتمتع به من انضباط والتزام، وتؤكد العديد من النصوص الشرعية على ذلك، أو كما قال الحديث: «كلُ مولود يُولد على الفطرة...» بمعنى أن تعاليم الدين الإسلامي هي الأساس في كل النفوس البشرية لولا تدخل عوامل التربية والبيئة بعد ذلك. { من ناحية أخرى، يمكننا أن نتحدث عن الأمومة كغريزة إنسانية تتمتع بها سائر الأمهات من جميع المخلوقات، وقد جُبلن عليها دون وعي منهن أو إرادة، بينما يمكن «للأبوة» أن تكون فطرية لأن الشاهد أنها قد تُكتسب لاحقاً بفعل المعايشة وكثيراً ما لا تُكتسب وهناك العديد من الآباء الذين لم يتعرفوا - أبداً- على أبوتهم فعلياً لخلل ما في تركيبتهم الإنسانية الفطرية! وكلنا بالطبع يعلم قائمة الغرائز البشرية التي لا نختلف فيها عن الحيوانات كثيراً، من رغبة في الحياة وحاجة للطعام والشراب والنوم والتكاثر والإخراج، ثم تميزنا - كبشر- بعامل العقل الذي يساهم في تحويل بعض الغرائز وإخضاعها للمنطق ليدخلها دائرة الفطرة فيهذبها ويشذب أطرافها. وقد تتمرد أحياناً النفس البشرية على هذا القانون الموضوع ويعاودها الحنين إلى أصلها البهيمي فتأتي بسلوك شاذ ومغاير، وإلا فبماذا نفسر النمط الحديث من الجرائم البشعة التي تتم تجاه الأطفال، التي لا نجد في كثير من الأحيان صفة تناسب مرتكبيها أكثر من أن نبصق على وجه أحدهم ونطلق عليه لقب «حيوان» وحتى الحيوانات بريئة منه. { إن الحديث عن الفطرة والغريزة شيق ومفيد، وأكبر فوائده أنه يمكنك أن تخضع نفسك لتقييم ذاتي سري لتكتشف منهجية تفكيرك في الحياة وهل أنت إنسان فطري أم غريزي وهي الحقيقة الوحيدة التي لا يمكن لسواك اكتشافها أو تعديلها. { تلويح: بالمناسبة، هذا الجحود الذي يمارسه الرجال مع النساء هل هو فطري أم غريزي؟!!