ثم ترجل الفارس بعد سنوات مديدة وعديدة من العطاء الثر والمدافعة في أقسى الظروف الاقتصادية على المسارين الوطني والخارجي في موقع لا حسد فيه، وفي وطن تنتاشه السهام وتصوب عليه آلة الاستكبار النبال والسهام، تولى وتسنم كرسي المحافظ تتويجاً لكسبه في قطاع البنوك التجارية حيث كان مديراً لبنك الخرطوم، ثم كرس خبرته وعمله الذي تنامى وهو في مقر صندوق النقد الدولي بواشنطن؛ خبرة وطنية سجلت بمداد من نور اسمها واسم السودان في سجل أكبر وأغنى منظمة مالية يتعاقب على العمل فيها الخبراء ورجال المال والسياسة ولا تستوعب إلا سراة المصرفيين حيث يتعلق الأمر بإدارة الاقتصاد العالمي ذي النسيج المالي والسياسي والنقدي المعقد بما يمثله من ضغوط تشوبها غوائل السياسة والمكر والدهاء. لما دعاه الوطن ركل الوظيفة الرفيعة وجاء مسرعاً إلى ساحة الوطن مهرولاً نحو المحلية ومودعاً عالمية ومرموقية المنصب، جاء يحمل علماً وهماً في أقسى ظروف الوطن المالية والنقدية والسياسية، قائداً للركب. فحول مهام بنك السودان من مصرف مركزي يقود نظاماً تقليدياً وإسلامياً إلى نظام مصرفي جديد يقوم على النمط الإسلامي غير الربوي ويتحول البنك من مجرد مودع ومسلف إلى بنك استثماري يشارك في المخاطر ربحاً وخسارة وينغمس مع العملاء في دراسة المشاريع وتغيير المفاهيم والتعامل مع نظام عالمي موغل في الإرباء والتَّرَابي وقاد في تلك الظروف العسيرة سفينة البنك المركزي بحنكة لتحقيق أهداف الاستقرار الاقتصادي وكبح جماح التضخم الجامح والوهن الذي شاب العملة الوطنية حتى كاد سعر الورقة الحقيقي يعادل سعرها النقدي، وذهب في حنكة وأناة يتابع توفيق أوضاع البنوك والعمل لتكبير احجامها المالية لتتمكن من الوفاء بواجباتها، ومن التجديف في بحار العالمية المتلاطم وفي قيادة ركب النهضة الاقتصادية في زمان أطبق فيه الحصار الأمريكي على اقتصاد السودان وشهد السودان القرصنة النقدية وهي تتعاظم حيث تنصب الشباك للتحويلات الدولارية. ثم تعامل البنك مع نشوء العملة الأوروبية الموحدة وهي اليورو والأزمات المالية الطاحنة التي أحاطت بالعالم وأثرت على درجات النمو وعلى أسعار البترول والسلع الغذائية والذهب وهي أزمات أو مظاهر تستدعي الحزم والذكاء في المعالجة لاقتصاد يعاني أساساً من اختلالات هيكلية وتتدنى فيه معدلات الإنتاج والإنتاجية وهيمنة قطاع البترول وتطلعات الولايات في إطار الحكم الاتحادي نحو كعكة أكبر وأحلى. وشهد عهد د.صابر أيضاً التحول إلى نظام مصرفي ذي نافذتين تقليدية وإسلامية بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل في 2005 وهو وضع يتطلب الحذر والحيطة والتوازن لقيادة أوضاع تتسم بالضغوط وتحوط معاملاتها الريب والشكوك والظنون وحافظ على استقرار العملة وعلى استمرارية النمو في الدخل القومي. إذا كان هدف السياسات النقدية الحفاظ على سعر العملة بالتوازن في خلق النقود والتحكم في حجم الكتلة النقدية والسيولة وتوجيه سياسات البنوك التجارية واستحداث آليات القبض النقدي عبر السندات وصناديق التمويل، فقد نجح بنك السودان في إحداث هذا الاستقرار دون أن ينفرط عقد الاقتصاد الوطني ولم تحدث كوارث نقدية أو اقتصادية كما حدثت خلال الأزمة العالمية الطاحنة التي أطاحت بالعديد من البنوك والمؤسسات المالية النقدية عقب انهيار سوق الرهن العقاري الذي أطاح أيضاً بحكومات ومحافطي بنوك وبنوك ضخمة وكثيرة. وظل السودان بمنأى عن التسونامي النقدي بفضل الحكمة في إدارة السياسة النقدية التي شهدت استقراراً ونمواً وترفعت عن الفقاعات أو عوامل الاندثار وحقق السودان وبشهادة صندوق النقد الدولي نمواً بلغ 5% بل تجاوز 13% وهو نمو باهر تحقق في ظروف صعبة وبإمكانيات شحيحة ولكنها السياسات المحفزة التي مهدت الطريق نحو نمو حجم الاستثمار والادخار واستعادة ثقة المؤسسات المالية والنقدية الإقليمية والمحلية. لقد ظل د.صابر ممسكاً بملفات الوضع النقدي في تناسق مع وزارة المالية والقطاع الاقتصادي بحيث كانت السياسة متوافقة مع الوضع في الميدان ويظل الاقتصاد هو علم الخيارات والتوقعات المحسوبة خاصة في ظل التحرير الاقتصادي وهو جزء لا يتجزأ من الحرية السياسية وقد أحسن البنك المركزي التحكم والرقابة بما منح قطاع الأعمال المزيد من الحرية والحركة وجذب عدة بنوك أجنبية أو مشتركة عبر سياسة التوجيه والإرشاد لفتح فروع لها بالسودان. قد تكون السياسات الأخيرة التي انتهجها بنك السودان نحو الإعادة الجزئية لرقابة النقد سبباً لضيق عديد من الناس حتى الاقتصاديين ولكن نسبة للظروف السياسية كان لا بد من اتخاذ أفضل السياسات لمواجهة تحديات الحركة المنهجية لتجفيف البلاد من العملات الأجنبية بعد نتيجة الاستفتاء وهروب رأس المال من الشمال إلى الإعادة الجزئية لرقابة النقد كإجراء تحوطي يستهدف الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي وهو إجراء أظنه مؤقتاً سوف يراجع بعد استقرار العلاقة بين حكومة السودان وحكومة جنوب السودان. د. صابر ظل يعمل في صمت وتواضع لا يرجو جزاء. إن الله هو المكافئ وإنك اجتهدت وأصبت فلك أجران وإن اجتهدت ولم تصب فلك أجر مقدم وعطاء بلاحدود ولك الصحة والعافية ولقد خسرت صداقات وكسبت صداقات أكثر وتركت بصمات وضيئة ستكون دوماً ماثلة وقد أصبح للبنك خيل وخيلاء وأصبح مبناه متيناً عتيداً. فلك شكر المقل وحديث من يرد الفضل من بعد الله لأهله..