وصلتني رسالة من صديق تقول: «استعلامات المطار: التونسية أقلعت، المصرية بعد قليل، اليمنية والأردنية بدء إجراءات الوزن، السودانية تمَّ إلغاؤها لعدم وجود ركاب!.. وشكراً». والرسالة اختصرت ما سوف أكتبه في حلقات، وهي تمثل ذكاءً غير عادي لهذا الشعب، كما تعكس المتابعة اللصيقة لما يجري في العالم، وهو بلا شك نتاج ثورة المعلومات التي جعلت الجميع، رغم أنوفهم، يحيطون بما يجري في العالم لحظةً بلحظة، فالمواطنة أصبحت عالمية، والأحداث عالمية، والمعلومة عالمية. ولكن فات على صديقي حدث مهم، لا يقل خطورة عما تم في تونس وما يجري في مصر وما سوف يحدث في اليمن والأردن، ولا يختلف في الاتجاه عما يجري في البلدان التي أشار إليها صديقي ولكنه تم بطريقة مختلفة. فقد تم إسقاط حكومة الحريري في لبنان بواسطة المعارضة التي يتزعمها حزب الله ولكن بطريقة أخرى من طرق الديمقراطية؛ إذ تم في لبنان عن طريق البرلمان، وما جرى ويجري في البلدان الأخرى بوسيلة أخرى من طرق الديمقراطية وهي إسقاط الحكومات بواسطة الشارع. والملاحظة الأولى هي أن الدول التي جرت وتجري فيها تلك الأحداث هي ما تسمَّى (دلعاً) (بأنظمة الاعتدال)، ولكنها حقيقة هي أنظمة العمالة والارتهان لامريكا ضد إرادة شعوبها. ولذلك أستميح صديقي في تعديل الرسالة محتفظاً له بحق الملكية الفكرية، لتصبح «استعلامات المطار: التونسية واللبنانية أقلعتا، والمصرية بعد قليل، واليمنية والأردنية بدء إجراءات الوزن، والسودانية تم إلغاؤها لعدم وجود ركاب». وعلى ضوء رسالة صديقي نحاول قراءة المشهد العربي الآن بالتركيز على ما يجري في مصر، وبالإشارة لما حدث في تونس ومحاولة قراءة ما يحدث، ومن ثم محاولة إسقاط ذلك على السودان الذي تمَّ إلغاء طائرته. ما جرى في تونس وما يجري في مصر يحمل كثيراً من السِّمات المشتركة؛ فكلا النظامين مدعوم من الغرب؛ تونس مدعومة من فرنسا ومصر مدعومة من الولاياتالمتحدة، كلا النظامين جاء عن طريق انقلاب عسكري؛ حسني مبارك جاء خلفاً لأنور السادات الذي خلف جمال عبد الناصر الذي جاء للسلطة بعد انقلاب 1952م. وبن علي جاء بانقلاب عسكري على الحبيب بورقيبة في العام 1987م. استمر حسني مبارك في الحكم ثلاثين عاماً وبن علي ثلاثة وعشرين عاماً تحت «فزاعة» وصول الإسلاميين إلى الحكم. وقد بذل كلا النظامين جهداً غير عادي لعزل الإسلاميين من السلطة إرضاءً للغرب؛ ففي تونس واجه الإسلاميون، منذ عهد الحبيب بورقيبة، كافة أنواع العزل السياسي والسجن والإعدامات والأشغال الشاقة المؤبَّدة على زعيمها راشد الغنوشي، واستمر الحال في عهد بن علي عندما استبان له قوة تأثير الحركة الإسلامية في تونس منذ العام 1991م، شنّت قوات الأمن حملة على الحركة ومؤيّديها وكان أعنفها في أغسطس 1992م عندما اعتقلت (8000) شخص وحكمت المحاكم العسكرية على (256) قيادياً وعضواً في الحركة بأحكام وصلت إلى السجن مدى الحياة ولم تتوقف الملاحقات والاعتقالات حتى سقوط بن علي. ولم يختلف حسني مبارك في محاربته للإسلاميين عن بن علي فقد مارس ضدهم كافة أنواع الإقصاء والقبض والتفتيش والأحكام الشاقة والمؤبّدة بواسطة المحاكم العسكرية، وحظر نظامه الإخوان المسلمين من ممارسة أي نشاط سياسي، ولا يكاد يمر يوم، خاصةً في السنوات الأخيرة، إلا وتعرض فيه عدد من قيادات الإخوان للاعتقال والتحفظ. والغريب في الأمر أن كلا النظامين عندما بدأت المظاهرات الشعبية ضدهما اتهمت الجماعات الإسلامية بأنها خلف تلك المظاهرات. كلا الرئيسين طاعن في السن وتجاوز الثمانين عاماً وليس هناك أي مؤشر عمن سيستخلفه. كلا النظامين يعتمد على حزب واحد يبصم على ما يفعلانه من قمع خانق مع شيوع الفساد بصورة واضحة ومتزايدة داخل الأسرة الحاكمة، استطاعت الأجهزة الأمنية داخل النظامين منع انتشاره بين أفراد الشعب، إلا أن الأمر خرج عن سيطرة الأجهزة الأمنية بفضل الشبكة العنكبوتية، والفيس بوك، واليوتيوب، أصبح الشعبان المصري والتونسي على اطلاع كامل بالفساد والجشع الذي يمارسه الرئيسان وزمرتهما. وكما هو الحال في تونس يعاني الشباب المصري (الذي يشكل نسبة 70% من السكان) من ارتفاع معدلات البطالة، وحتى المثقفين المصريين يجدون صعوبة في الحصول على وظائف سواء أكان في القطاع العام أم الخاص، ويعيش غالبية الشعب المصري الذي يزيد عن الثمانين مليوناً في حالة فقر؛ إذ يبلغ متوسط دخل الفرد اليومي أقل من أربعة دولارات، مع ارتفاع مضطرد في تكاليف المعيشة. وفي تونس فإن ما يقارب من 30% من التونسيين ممن تتراوح أعمارهم بين (20) إلى (24) عاماً عاطلون عن العمل، بينما يواجه خريجو الجامعات الشباب نسبة بطالة تقارب 25%. كلا النظامين عمل على إبعاد الجيش تماماً عن مسرح العملية السياسية على الرغم من استيلائهما على الحكم عن طريق الجيش. ولا يزيد عدد الجيش في تونس عن الأربعين ألفاً فقط، واستعان بن علي على تثبيت حكمه بالأجهزة الأمنية التي يفوق عددها وعدتها الجيش. أما في مصر فقد تضخم حجم جيش الأمن المركزي الذي أنشأه السادات في العام 1977م ليصبح أكثر من مليون في عهد الرئيس مبارك. وتحوَّل الإنفاق العسكري لمراقبة الجيش عن قرب. وفي عهد مبارك تضخمت ظاهرة الإحالة للتقاعد من رتبة العقيد فما فوق، وظهرت منح المزايا والهدايا وبزنسة الجيش ولتحويله لرجال أعمال لا إلى جنرالات محترفين ذوي طموح عسكري وسياسي. فمبارك لا يريد منافساً ولا خليفة بالسياسة من الجيش، وهو بالطبع ما تريده أمريكا وإسرائيل ويعمل مبارك على تنفيذه. فعندما تولى أبو غزالة وزارة الدفاع في العام 1981م، وكان يتمتع بشخصية كارزمية وطموح سياسي وعسكري وتولّدت له شعبية هائلة في الجيش وفي الشارع بعد قمع تمرد الأمن المركزي أواسط الثمانينات وكان يتصرف بندية ظاهرة مع مبارك. وعندما غضبت أمريكا على أبو غزالة ادَّعت أمريكا بأن أبو غزالة يرعى مشروعاً لتطوير الصواريخ المصرية، فتصرف مبارك بلا تردد وأطاح بأبو غزالة، وتكفلت وسائل إعلام مبارك بالباقي، ونسبت لأبو غزالة تهم التورط في فضحية السيدة لوس آرتين. فهل يكون أبو غزالة هو الجنرال الأخير الذي حلم بحكم مصر؟ وعلى الرغم من أن تونس فرنسية الهوى، وتركت أمريكا أمر تونسلفرنسا وذلك لصغر دورها في المنطقة ومحدودية تأثيره، بالرغم من سعي أمريكا الحثيث لاستقطاب عملاء من مختلف الأحزاب والتوجهات حتى وصل عدد دبلوماسيها قبل رحيل بورقيبة إلى آلاف، وتمكن بن علي من قصقصة أجنحتها وضيَّق على أعمالها، وعلى ذلك تركت أمريكا أمر تونس إلى الفرنسيين الذين يقومون بتقديم المطلوبات الأمريكية إلى النظام التونسي الذي لا يتردد في إنفاذها. وأمريكا لا تريد من تونس أكثر من دورانها في مشروع الشرق الأوسط الكبير والتصالح والتطبيع مع اسرائيل، وقد قام بن علي بهذا الدور خير قيام. أما مصر فهي الدولة المحورية في الشرق الأوسط وهي الكتلة السكانية الأكبر والأقوى التي كانت تحمل تعادل القوى الإقليمي في المنطقة، ونظامها هو الذي له مركزية في استقرار عملية حماية الكيان الصهيوني، فهو يختلف عن النظام التونسي حسب الإستراتيجية الأمريكية. وبالتالي فالنظام المصري حليف كقوة استقرار في المنطقة. وقد استجاب نظام حسني مبارك لذلك وتماهى مع الدور الأمريكي والإسرائيلي تماماً وأصبح ملكياً أكثر من الملك، ولم يكتفِ بما تم الاتفاق عليه في كامب ديفيد فقط وأصبح الرئيس مبارك شخصياً من أشد المقربين إلى إسرائيل ومنظمات اللوبي اليهودي في أوروبا وأمريكا. وأصبح نظام حسني مبارك من أهم مقومات ودعائم واستتباب الأمن القومي الإسرائيلي، ومن أهم الداعمين للمشاريع الأمريكية في المنطقة، ولو لم يتوفر الدعم المصري لما نجحت الولاياتالمتحدة في حصارها وحربها على العراق، ولما وصلت واشنطن إلى الخليج واستقرت فيه. ولولا مصر حسني مبارك لما تمكنت الولاياتالمتحدة وإسرائيل من الدخول والبقاء في العراق والخليج ولبنان. فقد تبرع حسني مبارك بمصر وإمكانياتها الجغرافية والبشرية والإستراتيجية واللوجستية والاستخبارية وجعلها في خدمة الولاياتالمتحدة وإسرائيل مقابل حماية نظامه من الداخل والخارج. بل وأكثر من ذلك فقد تبرع حسني مبارك بخدمات جليلة ما كانت واشنطن تحلم بها وقد أكد ذلك تقرير مكتب المحاسبة الأمريكي ليؤكد تضخم خدمات مبارك لأمريكا، حيث يشير التقرير إلى حقائق مفزعة؛ فقد سمح مبارك بعشرات الألوف من أذون المرور الجوي لمقاتلات أمريكية عملاقة ذاهبة بالدمار إلى أفغانستان والعراق. وسمح مبارك بمرور (819) سفينة وبارجة أمريكية - بعضها من النوع الذري- عبر قناة السويس لنفس الدول الإسلامية والعربية، كل ذلك وغيره تكشف للشعب المصري الذي يرفض غالبيته التطبيع مع إسرائيل، وتحزن وتشعر بالأسى لموقع مصر الذي وضعها فيه مبارك وقزَّمها بعد أن كان المصريون يفخرون بأنهم أُم الدنيا. وأوجه التشابه بين ما تمّ في تونس وما يحدث في مصر كثير، ولكن نختم هذه الحلقة بالوجهين التاليين: إنَّ الأحداث في تونس حدثت بصورة مفاجئة للجميع ولم يكن يتوقعها أحد، وربما في مصر كذلك، إلا أن المؤكد أن الانتقال إلى مصر لم يكن متوقعاً بهذه السرعة وكان من غير المتوقع أن يكون النموذج الثاني لتونس هو مصر، وعلى الرغم مما ذكرنا إلا أن ما كان يقدمه الغرب وأمريكا لحماية النظام في مصر وحرصها على بقائه كان من المتوقع أن تكون مصر في آخر القائمة ومن المؤكد أن الأمر في مصر وتونس خارج عن السيطرة الغربية على الرغم من الجهود المبذولة لاحتواء الثورتين في مصر وتونس. وفي نفس هذا الاتجاه فإن قيادة الشارع في الحالتين من الشباب العادي الذين هم خارج دائرة الانتماء الحزبي والولاء العقائدي وهذا ما يضعف من مآلات الثورتين، إذ مازالت بقايا النظامين، في كلا البلدين، تدير دفة الحكم، على الرغم من التغيير المتفاوت في الدرجة هنا وهناك، وعلى الرغم من الاختلاف بعض الشيء في الموقف المصري إذ مازالت قوى المعارضة والأحزاب الرئيسية في مصر تقدم رجلاً وتؤخر أخرى في قيادة الثورة. وجه الشبهة الثاني هو موقف الجيش في البلدين ففي تونس يحسب للقيادة العسكرية تعاملها حتى الآن بروح عالية ومسؤولية مع الاحداث سواءً من خلال العمل على ضبط الحالة الأمنية أم بترك المجال أمام السياسيين للبحث عن خطوات المرحلة الانتقالية وتسرب في الأخبار أن قائد الجيش في تونس «رشيد عمار» رفض الامتثال لقرار بن علي في ضرب المظاهرات. وفي مصر بعد أن قامت قوات الشرطة والأمن، تماماً كما حدث في تونس، واجهت المظاهرات السلمية بالعنف المفرط والقتل بالرصاص الحي، وتغلغلت القوات السرية في وسط الجموع فاعتقلت وضربت وسحبت وزاد على تلك القوات في مصر بلطجية مبارك، وبعد استعمال البغال والجمال والحمير انسحبت تماماً وكان من المتصور في مصر أن يكون الجيش في صف مبارك ونظامه فتفاجئنا شاشات التلفزيون أن الدبابات تتحرك متثاقلة لاحتلال المراكز الحساسة في القاهرة والجنود يلوحون بإشارات النصر ولم تصدر طلقة واحدة من الجيش باتجاه المتظاهرين، بالإضافة إلى مشاهدة صور عدة تعبِّر عن انسجام تام بين شباب متظاهرين وقوات الجيش، بل أن الجيش أبعد مناصري مبارك وحال بينهم والوصول إلى ميدان التحرير حيث المتظاهرين، بل أن الجيش يقوم باستلام كل من يقوم الشباب بالقبض عليه. وفي ذلك كتبت نيويورك تايمز عن التشابه الكبير بين الجيش المصري والتونسي إزاء الأحداث، وهو تشابه على الرغم من أنه لم يكن متوقعاً، إلا أنه قد حدث في تونس ومصر، كان من الراجح ان يقوم الجيش في مصر أكثر منه في تونس بما قامت به القوات المجرية في الخمسينيات، وما قامت به القوات الصينية في ساحة تيان اسين في بكين، وما قامت به القوات الجزائرية من قمع ومنع أن تأخذ الديمقراطية مجراها، ولكن في أحداث تونس ومصر نرى شيئاً مغايراً!!!؟ ونواصل.