لما كانت المعارك تحتدم على أشدها بين المؤتمرين الشقيقين، اللذين شقينا بهما وشقيا بنا؛ المؤتمر الوطني والشعبي، قد خرج علينا يومئذ أحد شيوخ الإسلاميين ببعض السلوى والأشواق، على أن القوم؛ قوم شيخ حسن، يستقون فلسفتهم في خرق سفينتهم للخروج من طوق الحصار الذي أحكم حولهم، يستقونها من قصة الرجل الصالح في سورة الكهف، على أن الرجل الصالح في قصتنا نحن لم يكن غير الشيخ الترابي، يقول الشيخ، قد تغتالكم الآن الحسرة والدهشة، كيف تخرق هذه السفينة المنطلقة ثم يتلو علينا الآية «فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً»، ثم تنفرج أسارير الحضور من تلامذة ومريدي الحركة الإسلامية، سيما لما يعبر بهم الشيخ في شروحاته وتخريجاته إلى بر أمان الآية الكريمة؛ «أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً»، ثم إن جموع المريدين والمشفقين ينفضون من حلقة الشيخ وهم يهمهمون، ما أحكم وأروع شيوخ الحركة الإسلامية، إنهم يخرجون بنا وبالحركة كما خرج سيدنا موسى عليه السلام من قومه أربعين يوماً يتيهون في الأرض، والصالحون كما الأنبياء، تعتريهم حالة الخروج هذه في كل الأزمنة والأمكنة، فانصرفنا على أمل أن تعود الحركة بعد أربعين، كما عاد سيدنا موسى عليه السلام، لكن أربعين يوماً قد مضت دون أن تعود الحركة الإسلامية إلى رشدها، فقلنا ربما أن الشيخ كان يعني أربعة أشهر، وبعد الأربعة الأشهر قال نسوة في المدينة «لا تظلموا الشيخ ربما كان يعني أربعة أعوام». وبعد الأربعة أعوام قال أحد الدراويش: «جودوا الرقصة وأطلقوا البخور وأحسنوا ضرب النوبة»، وأنصفوا الشيخ ولا تظلموه، فربما كان يعني أربعين عاماً. أربعون عاماً تتيه الحركة الإسلامية في الأرض وفي هذه السنين العجاف قد أطلق علينا آخرون، كما السامري، يقولون إنه «الخروج الأخير»، فليس هنالك عودة، فقد خرجت الحركة الإسلامية إلى غير رجعة، لدرجة أن بعض العقلاء قد استعصم بمقولة أبو بكر الصديق رضي الله عنه: «من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت»، { أكثر من عقد من زمان الأزمة يمر ولم يلتئم مؤتمر الحركة الإسلامية، بل ربما نعيش الآن أسوأ مراحل الأزمة، وشيخ حسن يحل ضيفاً على سجن كوبر منذ شهور، والقطيعة بين الإسلاميين على أشدها، بل إن المؤتمر الشعبي قد بلغ مرحلة استدعاء «الأممالمتحدة علينا»، وعلى متن أسوأ الفصول، الفصل السابع والثامن، لا فرق، الفصلان اللذان يجوزان استخدام القوة ضد السودان، على أن الذي يجري في السودان هو أسوأ من الذي يعرض على شاشة الجزيرة من بنغازي وإجدابيا والجبل الأخضر والبريقة، وليس هناك بارقة أمل في الطريق! الشعبيون ينتظرون الأممالمتحدة لتطلق سراح شيخهم بعد أن أعيتهم الحيل، ونحن في المقابل ننتظر من شيخ حسن أن يفك أسرنا جميعاً من أسر الأزمة. { ربما لا يدرك الكثيرون بأن أزمة دارفور، كأخطر أزمة سودانية، يمكن أن تعصف بتماسك كيان الوطن، هي بالأحرى نتاج أزمة الإسلاميين، وأن هذه الأزمة لن تطوى وترحل إلا إذا التأم المؤتمران، فلا تحتاج إلى عبقرية لتدرك أن «المؤتمر الشعبي» يستعصم بهذه الأزمة ويطيل أمدها وهو يمسك بأقوى أذرعها؛ (حركة العدل والمساواة)، فلا الدوحة قادرة على اختراقها، ولا باريس وأديس، ولو اجتمعت العواصم كلها وكان بعضها لبعض ظهيراً، لما استطاعت أن تفعل شيئاً، فالسجن الذي تدخل فيه البلاد برمتها هو أعظم من السجن الذي يدخل فيه شيخ حسن. { ستراوح هذه الأزمة مكانها ما لم نهتد إلى «مفاوضات المنشية»، أعني ضاحية المنشية بالخرطوم، وبعيداً عن قناة الجزيرة والوسطاء، يلبس السيد الرئيس عمامته جيداً ويذهب إلى الرجل الشيخ في بيته، بعد أن يطلق سراحه ويدار هنالك حوار سوداني خالص.. والله أعلم. { مخرج: قيل أن الرئيس الراحل قد صادف الرئيس البشير في خيمة عزاء فسأله: «أين الرجل؟»، قال البشير «إنه موجود بكوبر»، قال النميري «لو فرطت في الرجل فستصبح مثلنا تنتقل من خيمة إلى خيمة»!