تنبع الأهمية الإستراتيجية للسودان من موقعه الجغرافي المتميِّز في قلب القارة الإفريقية البكر وقربه المؤثِّر من منطقة القرن الإفريقي الإستراتيجية ومنطقة البحيرات العُظمى الغنية بمعادنها النفسية وتفاعل الحضارة العربية والإفريقية والأديان السماوية على أرضه. عن طريق وادي النيل يربط السودان شمال القارة الإفريقية بجنوبها وشرقها بغربها، متفاعلاً بما يحدث بدول المنطقة سلباً وإيجاباً. السودان يطل على البحر الأحمر بساحل بحري عريض يبلغ طوله (800) كيلومتر، مما يمنحه أهمية بالتحكم في حركة التجارة الدولية بهذا الممر المائي الاستراتيجي. يتمتع السودان بإمكانات وموارد طبيعية هائلة تجعل منه بديلاً غذائياً عن أمريكا بالمنطقة العربية والإفريقية وسلة غذاء للعالم، إذا توفرت له الإرادة السياسية القوية لاستغلال هذه الموارد الضخمة. موقع السودان له أهمية عسكرية كبرى باعتباره عمقاً استراتيجياً للأمة العربية بصفة عامة ولجمهورية مصر بصفة خاصة، ويعتبر مدخلاً للقارة الإفريقية، سواء عن طريق المحور الرعوي الذي يربطه بدول غرب إفريقيا أو المحور النيلي الذي يربطه بالدول الإفريقية باتجاه منابع النيل. لهذه الأهمية الاستراتيجية أصبح السودان محط أنظار لأطماع الدول العظمى والصهيونية العالمية، مما يحتم على الدبلوماسية السودانية السعي الدائم والمستمر للتحديد الدقيق لاستراتيجيات وأطماع هذه الدول ووضع الاستراتيجيات المضادة لها بما يصون ويحفظ الأمن القومي السوداني. انتماء السودان العربي جعله يهتم كثيراً بقضايا منطقة الشرق الأوسط وقضية العرب المركزية التي تمثلها القضية الفلسطينية، ومن هذه الزاوية أصبح السودان عنصراً أصيلاً في الصراع العربي الإسرائيلي. الاهتمام الإسرائيلي بالقارة الإفريقية تم مبكراً منذ عهد القادة المؤسسين لدولة إسرائيل من أمثال «هرتزل، و«بن غوريون»، حيث إن القارة الإفريقية كانت وطناً مرشحاً لإعادة توطين اليهود، حيث تم ترشيح يوغندا وجنوب السودان ومنطقة شرق إفريقيا لهذا الغرض. التغلغل الإسرائيلي بالقارة الإفريقية ومنطقة البحر الأحمر بدأ منذ الخمسينيات بعد إغلاق مصر لمضيق تيران، حيث كان ذلك سبباً مباشراً لاندلاع الحرب بين مصر وإسرائيل في عامي (56 - 1967م)، ولهذا اهتمت إسرائيل بإقامة قواعد عسكرية لها بجزر البحر الأحمر، كما حدث في «جزيرة دهلك»، كما أقامت لها نقاط تنصت ومراكز مراقبة وإنذار مبكر وكانت تلك هي بداية السيطرة الإسرائيلية على البحر الأحمر الذي تحول من بحيرة عربية إلى منطقة نفوذ إسرائيلية، خاصة بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد التي أخرجت الجيش المصري من الصراع العربي الإسرائيلي لأن ما تملكه الدول العربية الأخرى من قطع بحرية لا يخرج عن نطاق خفر السواحل!! العداء الإسرائيلي للسودان سببه المباشر المواقف القومية والوطنية التي قام بها في دعمه لأمته العربية والإسلامية كما حدث في مؤتمر الخرطوم المشهور (بلاءاته الثلاث) التي عكست قوة الإرادة العربية على الصمود والمقاومة. لكل ذلك أعلنت إسرائيل استراتيجيتها التي تمثلت في أن يكون السودان دائماً مشغولاً بنفسه حتى لا يدعم قضايا أمته العربية والإسلامية، ومن هنا كان الحزام الأمني الذي أقامته إسرائيل من الدول الإفريقية التي تقع في نطاق الأمن المباشر للسودان وازداد الاختراق الأمني الإسرائيلي بعد توقيع اتفاقية نيفاشا «الكارثة»، وتم مؤخراً إحكام الحصار بقيام دولة السودان الجنوبي التي أصبحت مسرحاً لاستخبارات الدول العظمى ودول الجوار الإفريقي والموساد الإسرائيلي، هذا بالإضافة للاختراق الأمني الإسرائيلي لحركات التمرد بدارفور، كما حدث بالنسبة لحركة عبدالواحد التي فتحت لها مكتباً بتل أبيب!! يضاف إلى ذلك علاقات إسرائيل بالنظام الليبي التي كشفتها الثورة الليبية مؤخراً. الغارة الإسرائيلية الأخيرة التي تمت على طريق مطار بورتسودان تعتبر مؤشراً قوياً على الاختراق الأمني للموساد لبلادنا. السؤال هنا: على من تقع المسؤولية؟ الإجابة باختصار شديد تقع على جهاز الأمن والمخابرات الوطني ووزارة الداخلية ووزارة الخارجية ووزارة الدفاع ممثلة في هيئة الاستخبارات العسكرية. هذه المؤسسات معنية بمقاومة النشاط الاستخباري الأجنبي بالبلاد عن طريق المخابرات الاستراتيجية المضادة. سفارات السودان لها دور أمني تقوم به قبل تأشيرة الدخول، ووزارة الداخلية لها دور أمني في مراقبة حركة الأجانب بالبلاد، وجهاز المخابرات الوطني والاستخبارات العسكرية لهما دور أمني في مقاومة النشاط الاستخباري الأجنبي عن طريق المخابرات المضادة والاستخبارات المضادة للنشاط الاستخباري المعادي للدولة، ولهما أيضاً دور عن طريق التعاون وتبادل المعلومات مع الأجهزة الأمنية الصديقة. المطلوب الآن تفعيل دور هذه المؤسسات والتنسيق بينها عن طريق مستشارية الأمن. الأمن مسؤولية الجميع والمطلوب هنا من المواطنين مساعدة الأجهزة الأمنية بالتبليغ عن أي تحركات أو نشاط أجنبي مشكوك فيه. المعلومات تلعب دوراً كبيراً في نجاح مثل هذه الأعمال التخريبية، ولذلك ينبغي تجفيف مصادر هذه المعلومات بمراقبة العناصر المشكوك في ولائها الوطني. ما كان لهذه الغارة الإسرائيلية أن تنجح إذا لم تجد سنداً داخلياً لأن تفاصيل هذا الحدث تعبر عن مراقبة ومتابعة لصيقة للضحية. أما عن الاختراق للمجال الجوي فهذا شيء أكثر من عادي يحدث حتى في الدول العظمى، كما عكست ذلك أحداث 11 سبتمبر. وكما حدث في الميدان الأحمر بروسيا، وكما حدث في العراق وفي سوريا، وكما يحدث في إسرائيل نفسها من وقت لآخر. هذا الحدث يعتبر من العمليات الخاصة التي لا يمكن ردعها أبداً إلا بمعالجة جذورها الحقيقية. هنالك حقائق مهمة ينبغي أن يدركها الجميع وهي أن أعمال الدفاع الجوي تعتبر من أكثر الأعمال العسكرية تكلفة ولا تستطيع أية دولة من دول العالم الثالث القيام بها. الأهداف الجوية أهداف سريعة جداً وفترة التعامل مع الهدف الجوي لا تزيد عن ثوان محدودة في لحظة الهجوم أو في لحظة عودة الطائرات المغيرة، وهذا يتطلب درجة عالية من الاستعداد طيلة اليوم، كما يتطلب أيضاً تحديد زمن الهجوم واتجاهه وعدد الطائرات المغيرة. التعامل مع الأهداف الجوية يتطلب وسائل إنذار مبكر على درجة عالية من الكفاءة واتصالات سريعة ومضمونة في كل الأوقات بين وسائل الإنذار المبكر والقواعد العسكرية للطائرات الاعتراضية ومنصات إطلاق المضادات الإرضية. العملية معقدة جداً وليست بالسهولة التي يظنها البعض. حقيقة أخرى ينبغي أن يدركها الجميع وهي أن السيادة الوطنية التي ينادي بها البعض أصبحت في ظل النظام العالمي الجديد وفي ظل العولمة شيئاً من التاريخ، حيث إنه ليس هنالك أمن شامل مطلق في عالم اليوم!! حقيقة أخرى ينبغي أن يدركها الجميع وهي أن الجيوش تبنى بالسياسة وليس بالميزانيات السنوية المحدودة! لقد كان هذا الحدث فرصة للتجني على وزير الدفاع، حيث طالبه البعض بالاستقالة، وفي ذلك ظلم له، لأن وزير الدفاع تنحصر مسؤوليته في نقل السياسة العسكرية لقيادة الجيش وتوفير المعينات المطلوبة لتنفيذها، وبالرغم من ذلك فإن هذا لا يعفيه من المسؤولية ولكنها مسؤولية غير مباشرة. وزير الدفاع مشهود له بالوطنية والغيرة على مصلحة البلاد وأمنها وهو وزير نشط وحركي وله قدرة كبيرة في توفير الدعم المطلوب للقوات المسلحة في حدود إمكانيات الدولة. تأمين المجال الجوي لأية دولة في العالم لا يمكن تحقيقه ضد العمليات الخاصة والغارة الإسرائيلية تعتبر من العمليات الخاصة التي يتوقف نجاحها على المفاجأة والسرية والاختفاء والتمويه وصغر حجم العناصر المنفذة لها. الغارة الجوية الإسرائيلية أقامت الدنيا ولم تقعدها بعد، حيث إنها أثارت لغطاً وجدلاً واسعاً عكس درجة عالية من الحس الوطني بأهمية الحفاظ على أمن الوطن والمواطنين. ما حدث لم يخرج عن دائرة العمل الاستخباري الناجح لجهاز الموساد الذي سعى بهذا الأسلوب الدراماتيكي والتلفزيوني لتوصيل عدة رسائل لجهات مختلفة. ما كان يمكن لجهاز الموساد الإقدام على هذا العمل التلفزيوني لو لا ضمانة لفرص نجاحه نتيجة للمعلومات التي توفرت له، وذلك نسبة لأن طائرات (الهِل) معروفة حسب خصائصها بأنها طائرات ضعيفة وواهنة وعرضة للإصابة حتى بنيران الأسلحة الصغيرة، وذلك نسبة لبطء سرعتها ومحدودية مناورتها، ولهذا فإنه لا يتم الزج بها إلا في المناطق الآمنة. هذا العمل الاستخباري الناجح للموساد لا يمكن ردعه إلا بعمل استخباري مضاد. ما تم لا يقدح في كفاءة أحد ولا مجال فيه لاتهام أحد بالقصور لأن مثل هذه الأعمال الاستخبارية تحدث في كل دول العالم، بما في ذلك الدول المتقدمة، كما تمت الإشارة لذلك من قبل. ختاماً، تبرز أهمية تنسيق الجهود ومحاصرة نشاط الاستخبارات الأجنبية والمنظمات الدولية المشبوهة ببلادنا والإسراع في معالجة قضية دارفور، مع بذل كل الجهود الممكنة لإحياء قضية أمن البحر الأحمر مع الدول العربية حتى يصبح ممراً مائياً عربياً خالصاً ينهي الوجود الإسرائيلي بهذه البحيرة العربية. وبالله التوفيق. فريق أول ركن زمالة كلية الدفاع الوطني أكاديمية نميري العسكرية العليا