لجان مقاومة النهود : مليشيا الدعم السريع استباحت المدينة وارتكبت جرائم قتل بدم بارد بحق مواطنين    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    جامعة ابن سينا تصدم الطلاب.. جامعات السوق الأسود والسمسرة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    بحضور عقار.. رئيس مجلس السيادة يعتمد نتيجة امتحانات الشهادة السودانية للدفعة المؤجلة للعام 2023م    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    احتجز معتقلين في حاويات.. تقرير أممي يدين "انتهاكات مروعة" للجيش السوداني    هجوم المليشيا علي النهود هدفه نهب وسرقة خيرات هذه المنطقة الغنية    عبد العاطي يؤكد على دعم مصر الكامل لأمن واستقرار ووحدة السودان وسلامة أراضيه    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إسرائيل (في بطن البيت).. من يدَّعي البراءة!؟
نشر في الأهرام اليوم يوم 20 - 04 - 2011

صواريخ إسرائيل انتهكت الأجواء السودانية.. وقصفت شخصين.. تشك في أنهما يهربان السلاح إلى حركة حماس في قطاع غزة.. وقبلها انتهكت إسرائيل الأجواء السودانية، وقصفت قافلة عربات، وفق ذات الدعوى، إسرائيل تنتهك سيادة الأراضي السودانية.. وهذا هو المغزى (فمن يدَّعي البراءة؟ الجميع مدانون، حاكمين ومعارضين، على مَرّ تاريخ السودان، هم مدانون، الأحياء منهم.. وأيضاً الهياكل العظمية).
كانت عيون إسرائيل تراقب السودان منذ الاستقلال.. ترصد وتحلل أزمة النخبة السودانية في المركز، وصراعاتها على كراسي الحكم وإهمالها لأزمة الهامش وأعراقه، وأفادت إسرائيل من الأزمتين (أزمة المركز والهامش).. كانت إسرائيل ترصد وتحلل تاريخنا السياسي.. استغلت إسرائيل أزمة الحكم في السودان في المركز والهامش وتغلغلت في عمقنا (بالجواسيس..).. فأين كنا نحن؟ سؤال نشهره في وجه النُخب.. في تعاقبها على السلطة، يقول وزير الأمن الداخلي آفي ديختر: (السودان بموارده وبمساحته الشاسعة وعدد سكانه كان من الممكن أن يصبح دولة إقليمية قوية منافسة لدول عربية رئيسة، مثل مصر والعراق والسعودية.. ولكن السودان نتيجة لأزمات بنيوية داخلية وصراعات وحروب أهلية في الجنوب، استغرقت عقوداً من الزمان، ثم الصراع الحالي في دارفور، ناهيك عن الصراعات داخل المركز – الخرطوم – تحولت هذه الصراعات إلى أزمات مزمنة، وهذه الأزمات فوتت فرصة أن يتحول السودان إلى قوة إقليمية مؤثرة، في المحيطين العربي والأفريقي).. محاضرة لديختر ألقاها في معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، في العام 2008.. ونشرتها أخبار اليوم 8/4).
مغزى حديث ديختر هنا، أن إسرائيل كانت ترصد أزمة النخبة السودانية في المركز (الخرطوم)، وترصد أخطاءها.. ما نطلق عليه نحن الحلقة الجهنمية (ديمقراطية.. انقلاب)، ومغزى حديثه أيضاً، أن النخب السودانية فوَّتت فرصة أن يصبح السودان قوياً وموحداً.. وأهملت جماعات الهامش.. وكان لإسرائيل دورها في استغلال أخطاء النخب الحاكمة في المركز وفي الهامش.. (فمن يدَّعي البراءة)؟.
في استغلالها لأخطاء النخب الحاكمة السودانية دأبت إسرائيل على مد حركات التمرد في الجنوب بالسلاح.. ولم ترغب في توقيع حركة تحرير جنوب السودان، بقيادة جوزيف لاقو، على اتفاقية أديس أبابا، وأرادت أن يواصل لاقو الحرب إلى أن ينفصل الجنوب، وفقاً للإستراتيجية التي كشف عنها ديختر النقاب في العام 2008م.. لكن الأنظمة في السودان قُلَّب، والمحيط الإقليمي للداخل السوداني، قُلّب، وكذلك هو المحيط الدولي..
ظهر جون قرنق على مسرح السياسة في السودان بطرح السودان الجديد.. ورفض التفاعل مع الحكومة الانتقالية التي أعقبت حكومة النميري بحجة أنها (مايو، تو).. رفض قرنق أيضاً القبول بأن يصبح لاعباً في حلبة الديمقراطية الثالثة.. ولكن بعدها وعد بأن يأتي إلى الخرطوم على صهوة جواد اتفاقيته مع الميرغني في أديس أبابا، فوقع انقلاب الثلاثين من يونيو 1989.. ولكن هل كانت اتفاقية قرنق مع الميرغني وفق رؤية تحترم الديمقراطية وقوانينها.. أم أنها كانت حصان طروادة لقرنق إلى قلب الخرطوم، فرؤية السودان الجديد رؤية شمولية عمادها الحركة الشعبية، كحزب مستقبلي أوحد، وفي الحالتين.. رفض قرنق الانصياع لحكومة الفترة الانتقالية ورفضه الانصياع للعبة الديمقراطية.. لا شك في أن إسرائيل كانت وراءه بالسلاح و(بالتصفيق له)، أو ربما عليه سخرية.. إنه مرحلة، عاد قرنق إلى الخرطوم في العام 2005م.. وكانت له في العودة رؤية، وكانت لإسرائيل رؤية أخرى.. يتبجح ديختر هنا بأنهم دعموا تمرد دارفور منذ أن أسفر عن وجهه (الناري) في العام 2003م، ويبدو أن من فتح الطريق لإسرائيل إلى دارفور كان جون قرنق.. وأيضاً كانت لجون قرنق رؤيته (لسودان جديد.. موحد، أراده سوداناً موحداً.. وعن جدته أراد بها تجديد النخبة الحاكمة في الخرطوم بأن تصبح جنوبية في نظام شمولي..) وكانت لإسرائيل رؤية أخرى، إسرائيل أرادت انفصال الجنوب ثم دارفور في مخططها لتجزئة السودان كما شهد وزير أمنها الداخلي ديختر.
واختلاف الرؤى بين قرنق وإسرائيل قد يكون في تمعنه، فك طلاسم لغز مصرع قرنق في حادثة الطائرة الشهيرة.. تمعناً في قراءة القرائن مسنودة بالاستدلال المنطقي.. ومن القرائن حديث ديختر، عن مخطط إسرائيل الهادف إلى فصل الجنوب والمخالف لمخطط قرنق الوحدوي، وأيضاً من القرائن مقارنة موقف إسرائيل من جوزيف لاقو، زعيم حركة تحرير جنوب السودان، بموقفها من جون قرنق زعيم الحركة الشعبية لتحريرالسودان، وفي الحالتين أيضاً، أزمة نظام الحكم في السودان قُلَّب، وأزمة النخبة السودانية قُلَّب، والمحيط الإقليمي قُلَّب.. وكذلك المحيط الدولي، وفي مياه المحيطات الثلاثة سبحت إسرائيل بمهارة وصولاً إلى شاطئ نيفاشا الكينية.. التي مهدت لانفصال جنوب السودان.. كما أرادت إسرائيل، نيفاشا العام 2005، لا العام 1972، عام التوقيع على اتفاقية أديس أبابا، في إثيوبيا، ومستندين على شهادة ديختر عن سعي إسرائيل لفصل جنوب السودان وتجزئة السودان إلى دويلات، ومستصحبين المتغيرات الداخلية والإقليمية الدولية، نوضح هنا قرينة علاقة إسرائيل بجوزيف لاقو ثم جون قرنق وموقفها من اتفاقية أديس أبابا وعلاقتها باتفاقية نيفاشا، واحتمالات ضلوع إسرائيل في مصرع قرنق.
لم يرض جوزيف لاقو عن بعض بنود اتفاقية أديس أبابا وساندته إسرائيل بقصد، ويروي لنا صاحب (صراع السلطة والثروة في السودان، تيم نبلوك) القصة.. فلنستمع إلى حكيه.. يقول (وعدت الحكومة الإسرائيلية جوزيف لاقو بزيادة دعمها له، إذا ما نقض اتفاقية أديس أبابا، غير أنه وفي النهاية كان لبعض الضغوط الجانبية الأثر الفعَّال، فقد وقَّعت الحكومة السودانية والأوغندية على اتفاق بإبعاد الحركات المعادية لكل منهما، من أراضيها، ونجحت الحكومة الليبية في إقناع الرئيس الأوغندي عيدي أمين في مارس 1972 بطرد المستشارين العسكريين الإسرائيليين من بلاده وقطع علاقته مع إسرائيل، وهكذا أصبحت أوغندا مكاناً غير آمن لجوزيف لاقو، وتلقي المساعدات (الإسرائيلية).
تشجيع إسرائيل للاقو بأن ينقض اتفاقية أديس أبابا باستغلالها لعدم رضائه عن بعض بنودها.. كان الهدف منه أن يواصل لاقو القتال بدعم إسرائيلي لغرض انفصال الجنوب.. ذات المخطط الذي أعلنه وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي في العام 2008.. ولكن كان المتغير الإقليمي القائم آنذاك والذي ذكره نبلوك، هو علاقة الرئيس الليبي معمر القذافي بالرئيس الأوغندي عيدي أمين وحثه له على طرد المستشارين الإسرائيليين من أوغندا، وعمل المتغير الدولي في خدمة التوقيع على اتفاقية أديس أبابا بعكس إرادة إسرائيل، وتمثل هذا المتغير في ضرب النميري للحزب الشيوعي في يوليو 1971م وتوجهه غرباً بعد أن كان شرقي الهوى (يرتدي القميص الأحمر.. ادعاءً)، فصارت قبلته الجديدة أمريكا، عملاً بنصيحة التكنوقراط الذين زينوا له (جمال البيت الأبيض)، فوقع توجه النميري الجديد.. للأمريكان (في جرح).. في مواجهتهم للتغلغل السوفيتي في أفريقيا، وقتها، فدعموا اتفاقية أديس أبابا.. وكمنت إسرائيل إلى (حين): وهذا (الحين) هيأه لها النميري ذاته.. فكما قلنا أزمة نظام الحكم في السودان قُلَّب، ومن مظاهرها تقلُّب سياسات الزعماء بحسب مصالحهم، وكانت إسرائيل ترصد وتحلل.. تنتظر.. ثم تتدخل.. انقلب النميري على اتفاقية أديس أبابا فنقضها.. وكانت إسرائيل في الانتظار، وظهرت إلى حيز الوجود الحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة جون قرنق، وأيضاً دعمت إسرائيل قرنق بالسلاح، (كانت إسرائيل تشخِّص مرض النخبة السودانية، لتكتب روشتة العلاج في مصلحتها هي، ومن وصفات الروشتة، محاضرة ديختر، الواردة هنا، فمن يدَّعي البراءة (هذا عن النميري).
ونعود إلى القرينة، بعد تحليلنا للوقائع والمتغيرات، قرينة لاقو وقرنق وإسرائيل وعلاقة إسرائيل المحتملة بمصرع قرنق.. أرادت إسرائيل من لاقو فصل الجنوب ونقض اتفاقية أديس أبابا ولكن رياح المحيطين الإقليمي والدولي لم تكن مواتية لإبحار سفينة إسرائيل.. ولكن في نيفاشا كانت الرياح مواتية (تعبُّ) منها أشرعة جميع سفن إسرائيل في أفريقيا (توطيد إسرائيل لأقدامها في أفريقيا وفي دول الإيقاد راعية نيفاشا: كينيا وأوغندا وأثيوبيا وإريتريا).. وعلى الصعيد الدولي، كان (وصول المحافظين الجدد للرئاسة في أمريكا وسيطرتهم على الكونجرس).. المحافظون الجدد المتحالفون مع إسرائيل.. تدعمهم جماعات الضغط الأمريكية الموالية لإسرائيل.. ومن جانبه أثار نظام الإنقاذ صاحب الطموح الأممي، أثار غضب ومخاوف أمريكا.. ونجحت إسرائيل في تأجيج نيران الغضب وصولاً إلى نيفاشا.. وتضمنت اتفاقية نيفاشا فصل الجنوب كخيار أرادته إسرائيل.. وكانت لإسرائيل رؤية هي انفصال الجنوب وكانت لقرنق رؤيته وهي الوحدة، وكانت الأجواء الأمريكية مواتية لإسرائيل بعكس أحوالها في زمان جوزيف لاقو واتفاقية أديس أبابا.
قرينة تضارب رؤيتي قرنق وإسرائيل وقرينة موقف إسرائيل من قرنق ولاقو (أرادت من الاثنين فصل جنوب السودان) وموقف إسرائيل وقرنق ولاقو من فصل الجنوب المحكوم بالمتغيرات الإقليمية والدولية كما أوضحناها، وقرينة محاضرة ديختر عن استراتيجية إسرائيل بتجزئة السودان إلى دويلات.. كل هذه القرائن تضع إهدار دم قرنق على ذمة إسرائيل، كاحتمال، ليخلو لها الجو.. لفصل جنوب السودان عن شماله، كخطوة أولى لتجزئته كما شهد ديختر، وكانت إسرائيل ترصد وتحلل أزمة النخبة السودانية في صراعها على السلطة وأفادت من الأزمة.. والأخرى المتولدة منها وهي قضية جماعات الهامش، وشهد وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي على الرصد والتحليل والفائدة.. يقول (كان السودان يمثل عمقاً إستراتيجياً لمصر، هذا المعطى تجسد بعد حرب الأيام الستة في عام 1967، عندما تحول السودان إلى قواعد تدريب وإيواء لسلاح الجو المصري، وكان لا بد من أن نعمل على إضعاف السودان وانتزاع المبادرة منه لبناء دولة قوية موحدة، لأن هذا الأمر من المنظور الإستراتيجي الإسرائيلي، من ضرورات دعم وتعظيم الأمن القومي الإسرائيلي).
وأخذ إسرائيل بزمام المبادرة من السودان يعني استغلال أزمة النخب الحاكمة في الخرطوم التي أشار إليها ديختر في حديثه الوارد هنا، ووصفها بأزمة المركز – الخرطوم - وصولاً إلى ظهور دولة الإنقاذ.
هبط علينا الإنقاذيون (بمظلات الرحمة.. إنهم جنود السماء، يقاتلون في صفنا نحن المستضعفون في الأرض، ضد أعدائنا من بيوتات طائفية وكفرة شيوعيين.. وكانت إسرائيل بالمرصاد (ترصد وتحلل وتراقب) وكان جيراننا الأفارقة يعيشون على وجه من تقلُّبات الزمان، وكان الزمان هو الزمان العولمي الأمريكي الإسرائيلي.. وزمان المحافظين الجدد في إدارة بوش (الأب).. الموصولة بإدارة ابنه بوش (الثاني)، وإقليمياً، وطدت إسرائيل أقدامها في داخل أفريقيا، وكانت أحبولة حليفاتها من دول الإيقاد ومن ورائها أمريكا والمحافظون الجدد، وكانت اتفاقية نيفاشا وكان فصل الجنوب والآن المستهدفة دارفور (والبقية تأتي) وفق سؤال ديختر.. متى؟ وسؤال ديختر يتحدى الجميع لإبطال مفعوله على وجه الخصوص (ملائكة الرحمة من مظليي الإنقاذ الساقطين علينا من لدن السماء، رحمة، كما زعموا!).. أخذت الإنقاذيين فتنة السلطة والمال.. وتفاقمت الأوضاع في دارفور وبطرحه للسودان الجديد، جاء إليها جون قرنق، لتمتد عمليات الحركة الشعبية العسكرية فتشمل دارفور في تحالف قرنق مع داؤود يحيى بولاد في العام 1991م وبعد مقتل بولاد تواصلت تحالفات قرنق مع حركات دارفور، وقدمها قرنق إلى دول الغرب ودعمها بالسلاح، ولا شك في أن إسرائيل من وراء قرنق، كانت حاضرة في المشهد.. وحديث ديختر عن أزمة النخبة في الخرطوم وإفادة إسرائيل منها يدخل ضمنها الانقسام الذي حدث في صفوف الحركة الإسلامية ليبرز خليل إبراهيم وحركة العدل والمساواة.. ونُظر إليه وإلى حركته كجناح عسكري للمؤتمر الشعبي. وبتنامي الصراع في دارفور أصبح السودان (مزرعة) لجواسيس إسرائيل، يقول ديختر، واصفاً تواجدهم في دارفور وفي السودان (حركتنا في دارفور لم تعد قاصرة على الجانب الرسمي وعلى نشاط أجهزة معينة.. فهنالك المجتمع الإسرائيلي بمنظماته المدنية وقواه وحركاته وامتداداتها في الخارج والتي تقوم بواجباتها.
لتحقيق إستراتيجيتها عملت إسرائيل على تطويق السودان بجيرانه الأفارقة المتحالفين معها ويشهد ديختر بدور إسرائيل في إشعال نار الحرب في جنوب السودان انطلاقاً من مرتكزات لها في أثيوبيا وأوغندا وكينيا وزائير سابقاً، الكونغو الديمقراطية حالياً.
وكان في إستراتيجية إسرائيل تطويق الدول العربية ولا سيما مصر، وحرمانها من أي نفوذ داخل القارة الأفريقية خاصة بعد الجهود الناصرية لتدعيم العلاقات العربية الأفريقية وكان من ضمن أهداف إسرائيل في حرب 1967 إضعاف دور مصر الناصرية في أفريقيا.. أيضاً خدمت اتفاقية كامب ديفيد إستراتيجية إسرائيل الأمنية في جانبها الأفريقي بعودة إسرائيل لأفريقيا من جديد وتوثيق علاقاتها مع الدول الأفريقية بعد أن قاطعت دول أفريقيا إسرائيل في حرب أكتوبر 1973م.. وتضمنت استراتيجية إسرائيل في أفريقيا السيطرة على البحر الأحمر، خاصة بعد التجربة التي مرت بها إسرائيل عند إغلاق مضيقي تيران وباب المندب في حربي يونيو 1967م وأكتوبر 1973، مما دفع بإسرائيل إلى تعزيز عمقها الاستراتيجي في البحر الأحمر ليتيح لها رصد أي نشاط عسكري عربي في المنطقة يهدد أمنها.
إذن فالوجود العسكري في أفريقيا وفي البحر الأحمر سهَّل على إسرائيل ضرب العربة في بورتسودان وهو من آثار تعزيز إسرائيل لعمقها الاستراتيجي في البحر الأحمر، بعد تجربة حرب يونيو وأكتوبر، مع العرب، وفي محاضرته أشار ديختر إلى توجيه غولدا مائير باستخدام الحديد والنار تارة والدبلوماسية ووسائل الحرب الخفية تارة أخرى، وكشف عن أن إسرائيل وعلى خلفية بعدها عن السودان مضطرة لاستخدام وسائل أخرى لتقويض أوضاعه من الداخل كما قالت مائير، باستغلال الفجوات والتغيرات في البنية الاجتماعية والسكانية فيه. وبناءً على أقوال ديختر استغلت إسرائيل هشاشة البنية الاجتماعية في السودان والمتمثلة في مظالم مجموعات الهامش وتحاول الآن تفتيت وحدة السودان باستغلال قضايا المهمشين.
في الديمقراطية الثالثة انشغلت الأحزاب بصراعاتها على الحكم.. ولم يكن في ذهنها نُذر التمرد في دارفور والذي أطل برأسه منذ تلك السنوات، وإحياء جذوره الممتدة إلى بُعيد استقلال السودان.. وفي سنوات الديمقراطية الثالثة كانت إسرائيل فاعلة في الجنوب تمد جون قرنق والحركة الشعبية بالسلاح، وعند وقوع انقلاب الإنقاذ كان جون قرنق يسيطر على 80% من أرض الجنوب.. فمن يدَّعي البراءة (هذا عن سنوات الديمقراطية الثالثة).
ونستعيد نبوءة وزير الأمن الإسرائيلي، ديختر، بأن إسرائيل تتوقع نجاح إستراتيجيتها الهادفة إلى تفتيت وحدة السودان.. وهو يتساءل فقط عن التوقيت.. متى؟ ولكن في منظوره فالتفتيت مفروغ منه.. فهل تبطل نخب السودان في الحكومة والمعارضة والمجتمع المدني، سؤال ديختر!؟.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.