تستحلب الإجازة الصيفية مخزون الذاكرة التعليمية لدى الأطفال، وتلقي به رائباً على أسماعنا فنبتلعه مجبرين أو مستمتعين، بحسب مدى أناقتنا الوالدية التي نرتديها أمام أبنائنا. وابنتي - حفظها الله - تحفظ من الأناشيد ما يجعل يومنا إذاعة (إف.إم) داخلية نستمع ونستمتع بالمتكرر من الأناشيد، لكن أكثرها هو نشيد المرور (أحمر.. أحمر المرور أقيف، أصفر.. أصفر انتظار خفيف، أخضر.. أخضر أمشي يا ظريف!) - وطبعاً لا أقدر على تعليب اللحن لكم، لكن يمكنكم تخيله إذا لم تسمعوه سابقاً!- المدهش أنها لا تحفظها غباءً فحسب، بل تفهم عن قرب معنى إشارات المرور ومدى احترامها لسلامتنا وأماننا المروري.. كما تدرك فلسفة اللون في ذلك، ولو بنسبة وتناسب عمرية. وهذا ما أنفقنا عليه وقتاً أكبر بكثير من نشيد ذي ثلاثة مقاطع خفيفة! فالاستخفاف الذي يتعامل به السائقون الذين لا يحفظون نشيداً ولا يحترمون قواعد ولا يتعاملون مع إشارات المرور إلا خوفاً من (عسكري الحركة)، جعل تكلفة الحوادث المرورية تفوق قدرة التعامل معها طبياً وإنسانياً، بالأرقام والأرواح! مما يجعل معالجة الإدارة العامة للمرور له تتراوح بحسب كل حالة من حيث الإجراءات القانونية والغرامات... إلخ، لكن المعالجة القبلية بالتوعية المرورية فهذه ما يمكن أن تحدث فرقاً حاسماً في أرقام ضحايا الحوادث المرورية كل عام. وفي كل عام تستنفر الإدارة العامة للمرور بأكملها ووزارة الداخلية أغلبها، الكوادر والمعدات للاحتفال بيوم المرور العربي، الذي يتوافق مع شهر مايو وينتهي اليوم، ورغم الحشد بالغ التعزيزات، ومهرجان المرور الكبير والسيارات والجوائز وقدرة إدارة الإعلام بالمرور في خلق حراك ملحوظ لتغطية الأمر والشوارع بالأبيض المتحرك، إلا أنه لا يتعدى مظهر الاحتفاء والبهجة، ثم يظل الحال على ما هو عليه حتى عام قادم. وعلى قدم وساق وقفت جمعيات طوعية عدة لتثقيف الناس بالعصا البيضاء مشروع المرور للعميان، التي يجهلها أغلبنا، ليس ترفعاً بقدر ما أن لكل منا شأن يغنيه من متابعة ما ليس يهمه. ورغم التصديق عليه كمشروع مروري يعزز المفهوم الأساسي لإدارة المرور والسير في أي بلد أنها لخدمة الناس أولاً، إلا أن العمل على توعية الناس به ضمن السلسلة التوعوية للمرور بدءاً من إجراءات السلامة في المركبة وقواعد المرور حتى حقوق شركاء الطريق غير واردة أبداً ربما يكون هو البداية للاحتفال القادم..! إن احتفاءنا الكبير بالرجل الأبيض على الطريق يجب أن يبدأ به، بتمكنه من أن يجعل الأمر يبدو كأنها نزهة على الطريق للسائق والراجل وله أيضاً - ربما بتعزيز مفهوم سعادة اللواء (عابدين) بالنفوس كان اتطايبت - وبجعل المخالفة آخر الهم والإيصال آخر خطوة في درب السلامة المرورية، وذلك عبر تغيير طبيعة العلاقة بين رجل المرور والسائق وبين السائق والمركبة - فهي أيضاً لها حقوق!- فنحن أمة لا تعترف بالذوق (ساي كده) إلا أن تكون لك منه مآرب أخرى، وهذا حديث مختلف لمرة ثانية، لكن محاولاتنا لتحسين الصورة العامة الرسمية ومجاراة التكنولوجيا وما نشهده من طفرة تقنية عارمة، حوسبت نظام العمل الشرطي وجعلته أيسر بكثير مما كان وإمكانية استخراج رخصة أو أورنيك تبدو أسهل من قضمة (سندويتش بيرقر جامبو!) وبما أن هناك وزارة تعنى بالموارد البشرية وهذا هو عملها الحقيقي، يمكن أن تتحسن الشخصية النظامية بشكل يتناسب مع الصورة والمعدات وإنسانيتنا في المقام الأول. وأول خطوة هي التعبير الفعلي عن شعار الحملة بتحقيقه على أرض الواقع بأن يكون (الطريق حق للجميع) والجميع هذه بلا استثناءات اعتبارية كالسيارات ذات السرينة إلا الإسعافية.. والمظللة إلا الرئاسية وغير المرقمة إلا الدبلوماسية، وأن يجد العامة الراجلون حقوقهم مكفولة كاملة بلا تمييز بين مبصر ومكفوف وعابر وبائع رصيف.. وأن يعرف الجميع أن المرور (لن يقيف إذا لم يكن العسكري لطيف) لكن بالضرورة نحب أن نستحق جميعاً قولة (أمشي يا ظريف).