{ منذ إنتاجه للفيلم الوثائقي (رجل من كرمكول) الذي يحكي عن حياة الروائي السوداني الضخم الراحل الأديب الطيب صالح، وأنا أكاد لا أجد أثراً للمخرج الأستاذ سيف الدين حسن، إن لغة الهاتف قد تعطّلت بيننا وأصبح (صائد التماسيح غير متوفر)، لم تتغير القلوب ولم تتبدل الأشواق ولكن قد تغيرت أرقام الهواتف لدى الطرفين. { منذ أيام وأكثر من صديق مشترك تجدني على عجل بأن سيف الدين يسأل عن هاتف (مؤسسة الملاذات) وقلت في نفسي لابد أن صاحب (مراكب الشمس) قد عاد بعد هذا الغياب بصيد وثائقي ثمين أغلى وأروع من (رث الشلك)، ولم يُخيِّب الرجل الوثائقي السوداني الأشهر ظني، وأخيراً تشتعل الهواتف بيننا والأشواق، وسيف الدين يدعوننا بثقة إلى متابعة آخر إنتاج مؤسسة نبته للإنتاج الفني والإعلامي الفيلم الوثائقي الذي جاء تحت عنوان (الضفة الأخرى). { كان موعدنا مع العبور إلى الضفة الأخرى ليلة الثلاثاء أمس الأول بقاعة الشارقة بالخرطوم، رأيت أن أتحرك من المنزل قبل مدة كافية، على أن أمرّ أولاً على كورنيش الدكتور عبدالرحمن الخضر على سفح جسر الجريفات المنشية، فكما تحتاج أجهزة تكييف السيارات للفريون من وقت لآخر حتى تُعطي برودة جيدة، كنت في المقابل أحتاج إلى (تحضير أشواقي ووجداني)، كأن أقوم بتعبئة مشاعري وأحاسيسي (بغاز) النسائم الذي يهبه النيل مجاناً لزائريه، حتى أذهب لصالة العرض بدرجة إدراك عالية جداً، قد يُظلم الليل والضفاف وسيف الدين من يأتي إلى مواسم دهشة بلا عطر، فتحتاج في هذه الأماسي أن تأخذ من دولاب ذاكرتك قميص (زي صوت المطر).. قميص مسطر أحمر بأزرق وأزرق بأحمر وشعراً متمرداً وحذاءً يصلح له المثل الإنجليزي الذي يقول (أناقة الرجل في حذائه)، تحتاج أن تأتي بصخب وحالة درامية مدهشة. { انتخبت مقعداً بين رجلين فنانين، سيد الجرافيك التلفزيوني شرف الدين والمخرج المعتّق ابن جزيرة أرتولي كباشي العوض، ثم حبس الليل والشارقة والحضور الأنفاس لما يقرب الساعة ونحن نُقلع في رحلة مدهشة مع التاريخ والطبيعة والجمال، سلمنا أرواحنا للكابتن سيف الدين، أو قُل الرئيس وهو يعبر بنا النيل الهائج مرات عديدة جيئة وذهاباً، والفيلم الذي سُمِّيَ (بالضفة الأخرى) يُجسِّد معانأة أهل الشمال في عبور النيل شرقاً وغرباً، فغالباً توجد المدارس والمشافي والأسواق بضفة، ومساكن الأهالي بالضفة الأخرى، وحيل الأهالي ووسائلهم في العبور شحيحة وزهيدة، ففي معظم الأحيان يضطرون لتوليفة من (براميل الحديد) في شكل قوارب صغيرة تلعب بها أمواج الأنهار مُعرِّضة الأهالي للخطر. وتحتدم القصة بغرق مجموعة من تلاميذ المدارس، يخرج التلاميذ صباحاً من تلك المباني المدهونة بروث البهائم والبقر بمرح هائل إلى المدرسة التي هي بالضفة الأخرى ثم يستغلون قارب براميل صغير وهم ينشدون ويضحكون ثم في اللقطة الثانية يغيب الأطفال في جوف النيل وتطفو شنطهم وكتبهم على سطح الماء، تذهب القرية في حالة حزن مهيب، ثم ينتهي المأتم إلى تشكيل لجنة (لصناعة مركب من الخشب) تكون أكثر أماناً، وهنا يظهر بطل المركب والقصة (عبدالجليل التمبساوي)، هذا الرجل الأسطورة، لنكون في ضيافته لمدة شهرين كاملين، وهو في كل يوم يضع لوحاً خشبياً في مشروع المركب، وكأن خيال المخرج مُترعاً وهو يسترق نظر الكاميرة خلال هذه الشهور ليُجسِّد شكل الحياة اليومية للأهالي، وبنيان الفيلم كله يتطور مع بنيان المركب، والذي يُدهشك أن كل القرية اشتركت بصورة أو أخرى في بناء تلك المركب التي كما لو أنها سفينة نوح، سفينة العبور إلى ضفة النجاة والأمان لكل الأهالي، حتى قلت للدكتور تيتاوي بالمناسبة يتم هذا العرض تحت رعاية اتحاد الصحافيين السودانيين ضمن فعاليات، أسبوعه الثقافي، قلت للرجل الدنقلاوي في ليلة (دنقلاوية) خالصة، لمن تؤول ملكية هذه المركب في خاتمة المطاف؟! أخي سيف الدين انتهت المساحة المتاحة، وسقوفات دهشتي ومتعتي ومشاعري تجاه هذا العمل الرائع تتسع لكتاب كامل، فليس هذا كل ما هناك. { مخرج.. لكني أستطيع الزعم بأن المخرج السوداني سيف الدين حسن بهذا العمل الناضج المثقف قد عبر إلى الضفة الأخرى وقمة هرمه الإبداعي .. وللحديث بقية.