من أسوأ سلبيات حكوماتنا المتعاقبة، وأجهزتنا الإعلامية، وسياسيينا هو عدم متابعتهم لكل ما يتعلق بقضية السودان الأولى التي هي التنمية الزراعية التي يمكن أن تصعد بالسودان إلى مصاف الدول التي يُشار إليها بالبنان لشهرتها مثلاً في صناعة النفط أو السيارات أو القمح أو المنسوجات أو البن. ففي الأسبوع الماضي كان هناك وفد سوداني من أهل الزراعة والإعلام قام بزيارة لغرب أم درمان حيث وقف على تجربة حصاد عنب في مزرعة نموذجية بهذه المنطقة بجانب زراعتها للزيتون والرمان والمورينقا وموالح أخرى. ترى هل كان هذا الوفد يعلم أن هذه المنطقة شهدت قبل حوالي عشرين عاماً، على عهد وزير الزراعة وقتها، بروفيسور أحمد علي قنيف، إنشاء مشروع للأمن الغذائي، وفي يوم افتتاحه في حفل حضره أحد قادة حكم الإنقاذ من العسكريين؟ وأن بروفيسور قنيف أعلن أن خصوبة التربة في هذه المنطقة تبلغ 9.5% وهو أمر لا مثيل له في العالم؟ وأن العنب يمكن أن يحتل صدارة منتجاتها، وأنه هو نفسه (الوزير) يرغب في زراعة عنب لأن نجاحه مضمون! وهل يعلم الوفد أن منطقة غرب أم درمان هذه هي خلاء يمتد حتى وادي المقدم الذي يبدأ من شمال كردفان وينتهي مطافه في الولاية الشمالية، حيث يشهد سيولاً خريفية كل عام؟. ولكن ماذا حدث في مشروع الأمن الغذائي بعد فترة من إنتاجه ومنها الخضر والأعلاف؟ كانت البداية طيبة للغاية، ولكن ما لبث المشروع أن تدهور، وأخذ يلفظ أنفاسه لسببين أساسيين الأول هو أن البنك الزراعي مع الأسف الشديد تصرَّف تصرُّفاً مريباً في حفره لآبار جوفية للمشروع بعمق أقل بكثير جداً من الأمتار التي حددتها المواصفات العلمية، خاصة أن المنطقة منطقة زحف صحراوي، وإذا بالنتيجة أن الرمال أخذت تزحف على الآبار، وتجثم على صدرها وتكتم أنفاسها، ولم يبق فيها إلا من ماء قليل يستفيد منه للشرب أهل القرى المجاورة للمشروع ووقتها حاولت مرات عديدة أن استكمل تحقيقاتي الصحافية في المشروع بمقابلة مسؤولي البنك الزراعي، ولكني لم أخرج منهم بلا أونعم. كانت الجهة الوحيدة التي قامت بدورها خير قيام هي مصلحة غابات الخرطوم حيث ذهب معي أكثر من مرة مسؤولها الأول محمد حسن الجزولي حيث كان يتابع بنفسه زراعة ونمو مصدات أشجارالبان التي تحمي المشروع من الرياح والزحف الصحراوي ومما قاله لي إن خطة الغابات تهدف أيضاً إلى قطع هذه الأشجار - بطريقة معينة - كل بضع سنوات للإستفادة من أخشابها الجيدة والغالية الثمن، وعادة سرعان ما تواصل نموها من جديد كأن شيئاً لم يكن. ولقد علمت مؤخراً أن هناك بعض الحراك الاستثماري الخاص في المنطقة - وليته يتواصل-، تشارك فيه ولاية الخرطوم والبنك الزراعي وأصحاب رأس المال وخريجو الزراعة الذين تتزايد أعدادهم مع كل عام جديد حتى يصل هذا الحراك إلى وادي المقدم مما يضع حداً للزحف الصحراوي بكثبان رماله التي لا يتوقف عدوانها على الغابات لتصبح أثراً بعد عين في نهاية الأمر. أقول ذلك وفي ذهني دراسة في مكافحة التصحُّر بولاية الخرطوم اطلعت عليها بلا تعقيدات بيروقراطية في مكاتب هيئة مكافحة التصحُّر الواقعة على طريق الجامعة ولكن هذه الدراسات لم تجد أي اهتمام من الجهات المسؤولة. ولعل البروفيسور أحمد علي قنيف يمكن أن يقوم بدور كبير في هذه المنطقة الشاسعة التي قال منذ حوالي عشرين عاماً أن خصوبة تربتها تبلغ 9.5% وهو أمر لا مثيل له في العالم. فهل تتحرك الجهات المسؤولة بجولات ميدانية تزرع هذه المنطقة طولاً وعرضاً، لترى بعيني رأسها ما تحفل به من إمكانات زراعية بشقيها النباتي والحيواني، وفوق أرضها بشر يضربهم الفقر حتى النخاع ومن شعارات الحكومة مكافحة الفقر، وإذا كان كل ذلك يحتاج إلى تمويل - وهذا صحيح - إذن.. لماذا تُنفَق الأموال الطائلة في استيراد السيارات الخاصة، وفي استيراد مواد البناء الفاخرة، والأثاثات الفاخرة، والتنافس في صناعة المشروبات الغازية تحت اسم خادع هو : صناعات غذائية فأي غذاء في هذه المشروبات في بلاد تُصنَّف في عداد أكثر البلدان فقراً؟!.. هذا على سبيل المثال لا الحصر. { باختصار الزواج الجماعي الذي درجت على رعايته الدولة هو خير لأهل السودان، فهو حل عملي بأبسط ما تيسّر، ولكن مخبول من يرفض رعاية الدولة لهذا الحل! السيد عبد الرحمن المهدي كان رائد «زواج الكورة» أي الزواج الجماعي في 27 رجب من كل عام. في خمسينيات القرن الماضي حاولنا في اتحاد الشباب السوداني حل المشكلة بزواج جماعي بسيط ولكن لم يهتم الناس بهذه الفكرة لسبب بسيط هو أن تكلفة الزواج لم تكن معضلة مستحيلة فهو يتم بأبسط ما تيسر، ولم تكن هناك بطالة وسط الشباب كما لم يكن المجتمع يعرف ما عرفه اليوم من ظهور شيء من الفوارق الاجتماعية هي إفراز طبيعي لتطور اقتصادي غير متوازن مما يحتاج لجرعات من العدل بين الناس في فرص العمل وفي الرواتب وفي توفير ضروريات المعاش!.