الفقر والقبيلة والسلاح والوعود، هذه هي المقومات والمرتكزات الأربعة التي ستنهض عليها دولة الجنوب القادمة، والتي بقي لإشهار بداية تاريخها ورفع علمها وإذاعة أناشيدها شهر واحد. وربما هي الدولة الأولى التي تعلن الحرب قبل إعلان استقلالها، بحيث إنها تخوض الآن حرباً في عدة محاور ضد دولة السودان الأم الرؤوم التي اصطبرت على حملها ومخاض وضعها وأوفت بوعدها، لكن القوم لا يمتلكون من القيم والوفاء والمواثيق بما يكفي لحقن (دم الحقيقة) وحفظ روح الوفاء. وكان من الوضوح بمكان، كالشمس في رابعة النهار، نوايا القوم في زعزعة الاستقرار وهم يرفضون الجلوس لتسوية بعض القضايا المختلف حولها، كما لو أنهم يرغبون في حمل هذه (الحقيبة المتفجرة) إلى شهر يوليو، الحقيبة التي تتفجر قبل وصولهم إلى ميز الاستقلال. ويجب أن تنشط ذاكرة الرأي العام بأن الحزب الحاكم في هذه الدولة التي لم يبدأ تاريخها بعد، لا زال يحتفظ بمسمى (الحركة الشعبية لتحرير السودان) وكان من المفترض أن يعبر جسر يوليو وهو يحمل ثقافة (التنمية والعدالة والحرية)، بحيث إن المعركة القادمة هي ضد الفقر والتخلف والجهل والظلام وليس ضد دولة السودان، لكن بدا أن القوم على ضلالهم القديم وثاراتهم التاريخية، كما لو أنهم قد بدأوا من الآن في تنفيذ استحقاقات المانحين من وراء البحار، والذين في خاتمة المطاف لن يمنحوهم شيئاً ذت بأل. فحكومة الحركة الشعبية لتحرير السودان، لو كان همها المواطن الجنوبي، الذي يفترض أنه قد أخذ كفايته من الاحتراب، ونال كل حصصه من الفقر والتشرد، لو كان همها تعويض شعبها سنين الحرب لذهبت منذ أول يوم في توظيف كل عائدات النفط لبناء المشافي والمدارس والحياة الكريمة. ولكن حكومة السيد باقان أموم المصنعة في (ورش الثأرات) المدهونة بلون الدم، قد وظفت كل إمكاناتها الشحيحة في استجلاب الأسلحة والمتفجرات والراجمات، على غرار تلك الشحنات التي الأوكرانية، التي احتجزها القراصنة الصوماليون في عرض البحار لبعض الوقت. لتدخل دولة الجنوب إلى يوليو الاستقلال وهي ترزح تحت وطأة الفقر والمسكنة، فالعائدون من الشمال لا يزالون يسكنون العراء ويفترشون البطالة ويلتحفون اليأس، والمحظوظون منهم من كانت له وشائج قربى مع (القبيلة الحاكمة)؛ قبيلة الدينكا التي تستحوذ على السلطة والثروة والمستقبل. والاحتكاك يعمل حريقاً، احتكاك الفقر والجوع مع السلاح والقبيلة، وقريباً ستقرأون عن جندي يبيع سلاحه لكي يشتري خبزاً، أو أنه يستخدم هذا السلاح لكي ينتزع خبزاً، وحكومته مستغرقة للآخر في تحقيق طموحات (أولاد أبيي) ونزوعات فاقان في زعزعة الشمال. وإذا ما اتسعت الحرب وانفتحت على طول ما يقارب الثلاثة آلاف كيلو متر من الحدود المشتركة، فإن للخرطوم أورقاً عديدة ستستخدمها لا محالة، فلئن كانت جوبا تعاني الآن من انشقاق أطور واحد، فهناك عشرات (الأطورات) والتطورات. قالها يوماً أحد حكمائهم «إن الشمال لنا بمثابة ورق الفلين الذي يوضع بين ألواح الزجاج»، وذلك حتى «لا يتطاقش» هذا الزجاج. المأمول أن ينهض العقلاء من الجنوبيين لتدارك أمر دولتهم واستقلالهم، ولو من باب (الذي بيته من الزجاج لا يقذف الناس بالحجارة).