هكذا يقفز يونيو من بين الشهور، ويونيو شهر القفر والثورات وشهر «رياح الخماسين» التي تسبق الخريف والرياحين والمطر، «والله نحنا مع (الثورات) الما بتعرف ليها خرطة ولا في إيدها جواز سفر»، وإن لم تخنِ الذاكرة فإن «حليوة» هي القرية التي تغنى بها الشاعر القدال وصعد بها إلى سطح ذاكرة القمر، وكأنه يجاري الشاعر محمد شمو في رائعته: «إلا باكر يا حليوة.. لما أولادنا السمر يبقوا أفراحنا البنمسح بيها أحزان الزمن»، ولكن لم تهزمني أطروحة في هذه «القصيدة الرمزية» مثلما هزمتني تراجيديا «الرواكيب الصغيرة تبقى أكبر من مدن»، وأنا أسجل هنا اعترافاً باهظاً ربما يكلفني كثيراً «بأن اليسار السوداني كان قادراً باستمرار على تشكيل لوحات مفردات الوطن»، وحتى ثوراته على ارتباكها وبؤس وجهتها وجدت مكانها في قلوب السواد الأعظم من السودانيين، ويذكر في هذا المضمار محجوب شريف: «يا شعباً لهبك ثوريتك تلقى مرادك والفي نيتك»، مروراً بهذا الشاعر الثائر أبداً هاشم صديق «أذن الأذان وحانصليك يا صبح الخلاص حاضر.. ونفتح دفتر الأحزان من الأول إلى الآخر ونتساءل منو الكاتل منو المكتول منو الربحان منو الخاسر»، وصولاً إلى قمة ود المكي: فتسلحنا بأكتوبر لن نرجع شبرا وسندق الصخر حتى يخرج الصخر لنا زرعاً وخضرة ونروم المجد حتى يحفظ الدهر لنا اسماً وذكراً ولكننا نحن في يونيو وما أدراك ما يونيو، غير أن الإسلاميين هم من علمونا قيم «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى»، فلقد تفوق اليسار دائماً في الأدب والأشعار ولكن في المقابل إن الإنقاذ تبدو لي كصاحب تلك العربة الكريسيدا، لما كانت الكريسيدا اليابانية تتربع على قمة السيارات «الكرسيدا السمح سيدا»، فالرجل الذي يغسل العربة كان يعرف اسمها وصاحبها لا يعرف فقال له: «إنتو يا ولدي أعرفوا اسمها ونحن نمتطيها»، فالإنقاذ التي هي أذكى من إعلامها وأشطر من أدبائها، تصنع الأحداث وتمضي لتترك للآخرين حقوق الطبع والتعبير والتأويل والتفسير! بيد أن يونيو الذي بين يدينا هذا ليس ككل شهور يونيو التي مضت، وذلك لكونه يأتي في زحمة ربيع الثورات العربية، وهذا بيت القصيد، فقد قالها كثير من العقلاء السودانيين، على أن الثورة في السودان ستكون أكثر كلفة، وذلك لكون مشهدنا السياسي يتشكل من هوية مرتبكة ومتنازعة، وإثنيات متنافرة وحركات مسلحة تنتظر «خلاياها النائمة والمستيقظة» ابن حلال يفتح لها باب الثورة، فلتكن ثورتنا بروستراتيكية، كيف؟ كأن يجمع الرئيس، وهو رجل مجمع عليه من معظم المدارس والكيانات العامة، أن يجمع كل الوزراء والمديرين والطواقم التي ظلت على مسرح الأحداث منذ صدر التسعينيات، فيقول لهم: «شكر الله سيعكم»، أن يقول هذه العبارة الشهيرة التي ولدت في شارع الثورة العربية، ليذهب كل الذين ظلوا يقدمون بلا انقطاع على مدى عقدين من الإنقاذ، لتجدد الإنقاذ «بحزمة من الشباب» السودانيين الذين يتم اختيارهم من «اليسار المعتدل» والوسط المتزن واليمين المحترم، حكومة واسعة الأشواق عريضة الآمال يرى فيها كل السودانيين متاعبهم وأتعابهم وأشواقهم وآمالهم وآلامهم. على أن يذهب «جيل يونيو» للتقاعد المشرف وفي جعبته بعض الشهادات المبروزة، وبطبيعة الحال أن هذه الخطوة ستجعل «جيل حنتوب» الذي يترصدنا من وراء حجرات السياسة يذهب إلى ذاكرة التاريخ.. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل