وقّع المؤتمر الوطني - الحزب الحاكم - والحركة الشعبية مساء الاثنين الماضي بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا، اتفاقاً انتقالياً لإدارة منطقة أبيي المتنازع عليها بين شمال وجنوب السودان، دون التوصل إلى صيغة نهائية وحاسمة تنهي الصراع حول المنطقة رغم تأكيدات الاتفاق على تبيعتها للشمال. أبرز بنود الاتفاق إحلال قوة إثيوبية قوامها (800) جندي بعيداً عن مظلة الأممالمتحدة، التي التزمت بالتمويل، تحل مكان القوات الأممية (يونميس) والقوات السودانية التي بسطت سيطرتها على المنطقة 21 مايو 2011 الماضي. وأقر الاتفاق الذي رعته الآلية الأفريقية لإنفاذ اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) برئاسة ثامبو أمبيكي، تشكيل لجنة من الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني مناصفة من (4) أشخاص تعنى بالخدمات بعيداً عن إدارة الشأن السياسي والأمني للمنطقة التي اتفق على إدارتها عبر لجنة مشتركة عليا، وحددت الأطراف «13» يوماً للبدء في إنفاذ الاتفاق بعد عرضه على مجلس الأمن الدولي. { اتفاق أديس أبابا يرسم الخطوط العريضة اتفاق الشريكين على نحو ما جرى، سبقه اجتماع للآلية الأفريقية لإنفاذ اتفاقية نيفاشا برئاسة ثامبو أمبيكي بالعاصمة أديس أبابا؛ بطرفي الاتفاق، وشارك فيه المؤتمر الوطني والحركة الشعبية بوفدين رفيعين ترأسهما من الجانبين رئيس الجمهورية المشير عمر حسن البشير ورئيس حكومة الجنوب سلفاكير ميارديت، ونجح الاجتماع في رسم الخطوط العريضة للاتفاق الذي تم التوقيع عليه. ما توصل إليه الشريكان يأتي على خلفية تسارع وتيرة الأحداث بمنطقة أبيي جراء هجوم الجيش الشعبي - الواجهة العسكرية للحركة الشعبية - على قافلة عسكرية من القوات المسلحة السودانية والقوات الأممية (يونميس) 19 مايو الماضي، في هجوم أسقط العشرات من القتلى في صفوف القوات السودانية والأممية. هجوم ردّت عليه القوات المسلحة بمثله واجتاحت على إثره منطقة أبيي في 21 مايو الماضي، وبسطت سيطرتها عليها بعد أن طردت منها كافة مكونات الجيش الشعبي، وكُلف بمقتضاه أحد ضباط القوات المسلحة بإدارة شؤون المنطقة إلى حين التوصل إلى حل للأزمة. سيطرة القوات المسلحة على منطقة أبيي أزعجت الحركة الشعبية والمجتمع الدولي ممثلاً في الأممالمتحدةوالولاياتالمتحدةالأمريكية، وسارعت مندوبتها - واشنطون - في الأممالمتحدة سوزان رايس التي كانت في زيارة إلى السودان على رأس وفد أممي، تزامنت مع استيلاء الجيش السوداني على أبيي؛ سارعت بالتلويح بعصا التهديدات وطالبت بخروج القوات المسلحة من أبيي. وبدا موقف الولاياتالمتحدة من خلال تصريحات رايس منحازاً باتجاه الجنوب على حساب الشمال دون تسجيل إدانة واضحة - وقتها - لهجوم الجيش الشعبي على قافلة (يونميس) والجيش السوداني. ورأى مراقبون أن مصدر قلق المجتمع الدولي من وجود القوات المسلحة بأبيي مرده تخوفه من استغلال الشمال ظروف إعلان دولة الجنوب الجديدة في التاسع من يوليو المقبل ويتمسك بأحقيته بالمنطقة طالما أن بروتوكول أبيي حصرها شمال حدود 1956. وأشاروا إلى أن الأمر يدلل عليه الارتياح الواضح الذي أبدته سوزان رايس ودعوتها في خطاب إلى مجلس الأمن بنشر القوات الإثيوبية فوراً في منطقة أبيي، ومسارعة ممثل الأممالمتحدة هايلي منكريوس إلى القول عقب التوقيع على اتفاق أديس أبابا إن منظمته ستكون مستعدة للمساعدة على الانتشار السريع للقوات الإثيوبية حالما أعطى مجلس الأمن موافقته على الاتفاق. أستاذ العلوم السياسية بجامعة الزعيم الأزهري د.إبراهيم ميرغني في حديثه ل(الأهرام اليوم) فسّر ارتياح الولاياتالمتحدة للاتفاق بشعورها بأن سحب القوات المسلحة من أبيي نصر يمكن تقديمه للرأي العام الأمريكي وتسبر به غور مجموعات الضغط داخل إدارتها، وقال إن مجموعات الضغط داخل الإدارة الأمريكية ترى أن حكومة أوباما لا تتعامل بالحسم اللائق مع حكومة الشمال، وتعتقد أنه لا يمارس ضغطاً عليها يلجم حكومة الشمال من ممارسة العنف في دارفور، أبيي والجنوب، وأضاف: «الإدارة الأمريكية تجتهد في إقناع الرأي العام بأنها تتعامل بالشكل المطلوب مع السودان». { ضمانات استمرار الاتفاق الحكومة لم تخرج من دائرة الترحيب بما تم الاتفاق عليه، وعبّرت عن تمنياتها - طبقاً لمسؤول الإعلام د.كمال عبيد - بتعامل الحركة الشعبية بروح المسؤولية مع الاتفاق. تمنيات وزير الإعلام لم تخرج من إطار شكل العلاقة بين الشريكين طيلة الفترة الانتقالية لاتفاقية (نيفاشا) التي كانت سمتها البارزة عدم توافر الثقة بين الطرفين، ونزولهما باستمرار إلى مستنقع تبادل الاتهامات في محور نقض العهود والمواثيق تمشياً مع ما تمليه المصلحة. د.إبراهيم ميرغني بدا غير متفائل بالتزام الأطراف، بما فيها المجتمع الدولي، بما تم الاتفاق عليه، وقال: «لا توجد ضمانات لاستمرار الاتفاق من قبل المجتمع الدولي والشريكين، والأمر رهين بعلاقة الطرفين بعد التاسع من يوليو. حديث ميرغني يمكن أن نستنتج منه ببساطة ادراجه مسألة الضمانات ضمن مستحيلات الكون، تماماً كما الغول والعنقاء والخل الوفي!! فالرجل يذهب في إفادته ل(الأهرام اليوم) إلى أن تعارض أي بند - مستقبلاً - مع مصلحة أحد الأطراف يمكن أن يضعف الاتفاق ويجعله كأن لم يكن، وتتفجر الأوضاع من جديد، موضحاً أن موقف المجتمع الدولي المنقاد للولايات المتحدةالأمريكية يذهب في ذات المنحى، وعلق: «ما تقوم به أمريكا في الملف وسيلة ضغط. لا توجد آلية بين الخرطوم وواشنطون تجبر الأخيرة على الالتزام بما يتم الاتفاق عليه». { حياد القوات الإثيوبية على محك التجربة العلاقات الإثيوبية السودانية في حقبة حكومة الإنقاذ منذ 1989 تسير في اتجاه مناقض لما كانت عليه قبل توقيع الحكومة الحالية على اتفاقية السلام الشامل، على خلفية اتهامات الخرطوملأديس أبابا - حينها - بدعم تمرد الجنوب بل والقتال مع الجيش الشعبي جنباً إلى جنب ضد القوات الحكومية. ويرى مراقبون أن استقرار العلاقة بين الخرطوم وأديس وانفراجها على كافة المستويات بما فيها الاقتصادي، دفع تيارات الحزب الحاكم إلى إطلاق العنان لفرس التفاؤل بشأن وجود قواتها بمنطقة أبيي، وإحلالها مكان القوات المسلحة التي بسطت سيطرتها على المنطقة. ولكن مصدراً أمنياً - فضل حجب اسمه - رسم صورة قاتمة لوجود القوات الإثيوبية في أبيي، وذهب باتجاه أن وجودها في أبيي (ورطة) على الحكومة البحث عن السبيل للخروج منها، مشيراً إلى طبيعة العلاقة الوثيقة لإثيوبيا مع الحركة الشعبية وإسرائيل والولاياتالمتحدة، وأكد أن ما سماه بالثالوث ما زال يتآمر على الشمال وإن بدا غير ذلك. وقال المصدر الأمني إن القوات الإثيوبية سبق وقاتلت جنباً إلى جنب مع الجيش الشعبي ضد الشمال، وأكد إمكانية استغلال تلك القوات من قبل إسرائيل والحركة وأمريكا لإنفاذ أجندتها، لافتاً إلى أن وجود القوات الأممية كان أفضل من الخيار الذي وافقت عليه الخرطوم، وقال: «الحكومة أخرجت القوات الأممية من الشباك وجاءت بها من الباب»، ونوّه إلى أن التزام الأممالمتحدة التي تأتمر بأمر أمريكا بتمويل القوات الإثيوبية يجعل منها أداة في يد المجتمع الدولي ضد حكومة الشمال. وقال المصدر الأمني «إن علاقة الحركة بإسرائيل وإثيوبيا وأمريكا لا تحتاج إلى دليل أو برهان ويجب أن لا نجامل على حساب أمننا القومي»، وأضاف: «وجود القوات الإثيوبية ضد مصلحة وأمن السودان وعلى الحكومة التحسب والاحتياط. أستاذ العلوم السياسية بجامعة الزعيم الأزهري د. إبراهيم ميرغني لم يستبعد استغلال أديس أبابا لوجودها العسكري في أبيي لتعزيز مصالحها مع حكومتي الشمال والجنوب على السواء وتحسين صورتها أمام الولاياتالمتحدةالأمريكية خاصة في ملف العمل السياسي داخل إثيوبيا، وقال إن واشنطون ظلت تضغط على (أديس) لتوسيع ماعون المشاركة السياسية وهذا أحد الملفات التي تؤرق إثيوبيا وتسعى لتسويتها مع واشنطون، وأوضح أنه على صعيد العلاقة مع حكومة الشمال فإن أديس أبابا تنظر إلى (ملف الحدود) وقضية مياه النيل التي تنحاز فيها الخرطوم إلى القاهرة. وبعيداً عن تقييم قدرة وكفاءة حوالي (800) جندي إثيوبي في الحفاظ على أمن واستقرار منطقة أبيي بعد خروج القوات المسلحة منها، لا يخرج الاتفاق الذي كان مسرحه العاصمة الإثيوبية (أديس أبابا) برعاية الآلية الأفريقية لإنفاذ اتفاقية نيفاشا؛ عن كونه (مسكناً) لألم تحديد تبعية أبيي، ولا يتعداه، ما يشير إلى أنه وبعد إعلان الحركة الشعبية لدولتها الجديدة في التاسع من يوليو فإن دولتي الشمال والجنوب تنتظرهما جولات لمحاولة طي الملف نهائياً، سواء أكان الحل سياسياً أم عسكرياً.