مع اقتراب موعد إعلان قيام دولة جنوب السودان أصبحت كثير من الأصوات توجه حمماً من الهجوم والانتقادات لاتفاقية السلام الشامل التي يعتبرونها أدت إلى انفصال جنوب السودان وضياع عشم الوحدة، وهذه الانتقادات تأتي في لحظة حزن وطني وحسرة تنتاب الجميع لأن عشم أهل السودان كان كبيراً جداً في اختيار شعب الجنوب وتغليبه لخيار الوحدة، خاصة أن أهل الشمال «على عكس مما يروج ضدهم»، يحملون حباً وعاطفة كبيرة تجاه إخوتهم الجنوبيين الذين ضللتهم الدعاية الغربية الحاقدة، وعادة في لحظات الحزن والحسرة يحدث تغييب جزئي للعقل وتتم ممارسة التفكير بالعاطفة، لذلك نجد كثيراً من الكتابات التي توجه انتقاداتها لاتفاقية السلام تتناسى بعض الحقائق المهمة المتعلقة باتفاقية السلام، حيث يتم تناسي أن اتفاقية السلام الشامل التي وقعت مع الحركة الشعبية كانت أكبر مشروع سلام قومي يسعى للوحدة الطوعية وقد أشارت كل بنودها وفقراتها وملحقاتها إلى هدف رئيس أثبت بصورة بارزة في ديباجة الاتفاقية ألا وهو: «إن طرفي الاتفاقية ينبغي أن يجتهدا ويبذلا قصارى جهدهما لتغليب خيار الوحدة» أي أن العمل من أجل وحدة السودان كان هو الهدف الرئيسي لاتفاقية السلام، وقد كان وفد الحكومة المفاوض يعلم علماً راسخاً أن فرص الوحدة أكبر بكثير من فرص الانفصال وذلك وفق مؤشرات كثيرة أغلبها متعلقة بالجنوب وشعبه أكثر من تعلقها بالشمال، أي أن كل المؤشرات كانت تشير إلى أن خطر الانفصال سيكون ضرره على الجنوب أكبر بكثير جداً من ضرره على الشمال. ووفق هذا الهدف الساعي لتغليب خيار الوحدة خدمت حكومة الشمال اتفاقية السلام بإخلاص تجاوزت «فيه الحد» حتى اُتهمت بالتفريط، بل إن حكومة الشمال كانت تتجاوز عن انتهاكات الحركة الشعبية لكثير من بنود الاتفاقية طمعاً في حدوث الوحدة، بل إن موافقة مفاوضي الحكومة على تضمين الاتفاقيات الخاصة بأبيي وجنوب كردفان والنيل الأزرق وتخصيصها ببروتوكولات خاصة كان دافعه الأساسي هو ثقة الحكومة في انتصار خيار الوحدة لأن انتصار هذا الخيار كان سيجعل من تلك البروتوكولات الخاصة عملاً إيجابياً تجاه تلك المناطق، ولكن الذي حدث هو أن «مجموعة متنفذة» في الحركة الشعبية تتحكم على الآليات التنظيمية للحركة الشعبية وهي مجموعة ذات ارتباطات خارجية مشبوهة كان لها هدف آخر بعيداً عن مصلحة الجنوب أو الشمال وهو هدف استئصال يتحدث عنه منفستو مشروع السودان الجديد الذي تقوم فكرته الأساسية على استئصال العرب والمسلمين من السودان والعودة به إلى «دولة الأماتونج» أو «دولة المقرة» في إشارة إلى الممالك المسيحية التاريخية التي حكمت السودان ورغم أن أمريكا والدول الغربية دعمت هذا المشروع عبر تعاطف خادع مع الجنوب إلا أن دعمها لم يكن أبداً لخدمة مصالح الجنوب أو السعي به لإقامة دولته الخاصة القابلة للحياة لأنهم يعلمون تمام العلم أن الجنوب لا يمتلك (25%) من مقومات إقامة دولة، ولذلك كان هدفهم هو تشجيع الجنوبيين ودفعهم للمطالبة بالانفصال في إطار تفتيت دول القارة الإفريقية وفق «سياسة الفوضى الخلاقة» وهذه السياسة هي سياسة غربية استعمارية صهيونية موجهة نحو إفريقيا خصيصاً تقول شفرتها السرية: «دع الطفيليات والحشرات والحيوانات الصغيرة تتقاتل لتحيا الأسود الاستعمارية»، لذلك نجحت المجموعة المتنفذة في الحركة الشعبية وبدعم غربي وأمريكي في ممارسة أكبر عملية تضليل ابتلع طعمها قطاع عريض من الجنوبيين البسطاء وقد نجحت تلك المجموعة في بذر بذور الحقد والكراهية وسط الجنوبيين تجاه الشمال لدرجة أدت إلى اختفاء أي أصوات جنوبية داعمة ومطالبة بالوحدة، بل أصبح يتهم بالخيانة كل من يدعو أو يطالب بالوحدة مع الشمال من الجنوبيين، وهذا ما جعل الجنوبيين يختارون الانفصال بتلك النسبة العالية «طوعاً وكرهاً»، حيث نجحت حملة التضليل في اصطياد قطاع عريض من الجنوبيين لصالح الانفصال والذين لم يضللوا مورست ضدهم سياسة الإرهاب والتخويف، لذلك فإن انتصار خيار الانفصال وسط الجنوبيين رغم ما قدمته اتفاقية السلام من مكاسب غير مسبوقة للجنوبيين ورغم الشعور الطيب والحضاري الذي يحمله الشماليون تجاه إخوانهم الجنوبيين، فإن الانفصال في هذه الحالة يصبح ضرورة سياسية ووطنية لأهل الشمال، وذلك حتى تحدث عملية تجريب عملي لخيار الانفصال وحتى يرى الجنوبيون بأعينهم المخاطر التي كان يحذرهم منها الشمال وحتى يقارنوا بين أوضاعهم قبل الانفصال وبين أوضاعهم بعد الانفصال لأن الجنوبيين وبعد سياسة المسخ والتضليل التي مورست ضدهم باتوا يحتاجون «لصدمة صاعقة» ستكون كفيلة بإعادة الوعي الغائب لهم، وهذا التجريب العملي لخيار الانفصال حسب رأيي هو الذي سيجعل الجنوبيين قريباً جداً يعودون للمطالبة بالوحدة مرة أخرى لأن كل الأحلام الوردية التي نثرها «باقان وزمرته» ستتكسر غداً على أرض الواقع بعد أن يتلاشى «بعبع الشمال» الذي كانوا يخوفون به الجنوبيين، وبعد أن ينفض سامر الدول الاستعمارية من وليمة الجنوب بعد أن يكونوا قد أكلوا لحمها وقذفوا بعظمها وبعدما ضمنوا مواطئ أقدام راسخة لشركاتهم الكبرى «مصاصة الدماء» وبعد ذلك سيقولون «في أنفسهم» فليذهب الجنوبيون إلى الجحيم كما ذهبت تيمور الشرقية التي شجعت على الانفصال عن إندونسيا المسلمة وبدعم غربي وكنسي وهي اليوم بعد أن غابت عنها كاميرات الإعلام المحرض تعاني الفقر والحروب وتبحث عن الوحدة التي ركلتها بأرجلها، لذلك فإن الحشد والتعبئة المليئة بالحقد والكراهية التي قادها «أولاد قرن» ضد الشمال وأهله المتسامحين والتي تحولت إلى (جن كلكي) لا يمكن محوها إلا «بصدمة كهربائية»، وهذا ما سيفعله الانفصال عندما تزول «السكرة» وتعود «الفكرة» وعندها سيكون الانفصال عملاً إيجابياً تكتيكياً لعودة الوحدة وفق شروط وطنية جديدة تصب في مصلحة خدمة شعب الشطرين، لذلك فإن الانفصال هنا لن يكون وفق نظرية الطيب مصطفى التي لا تستند إلى أي منطق عقلي أو ديني أو سياسي وهذا ما سأتناوله في المقال القادم!!