والفضيحة تطال الصحافة في العصر الحديث بقرار إيقاف الصحيفة البريطانية (نيوز أوف ذا وورلد)، أو أخبار العالم، التي أثبتت التحريات تورطها في عمليات قرصنة اتصالات لهواتف حوالى (4) آلاف شخص! ورئاسة الوزراء البريطانية تصدر القرار بشئ من الحزن المخلوط بغيظ المخدوعين، لكنه يحمل دقة القانون تماماً، ليكون عدد أمس (الأحد) آخر أعداد الصحيفة، وتنتهي سيرتها المهنية بفضيحة ثقيلة تختم نهائياً نشاطها المستمر ومنذ تأسيسها حتى الآن (168) عاماً بلا انقطاع! وتتقاطع الشائعات هناك أنه كقرار ذو نصل خفي لطعن خاصرة إمبراطور الاتصالات (روبرت مردوخ) الذي لم تستطع التحريات إثبات علاقته المباشرة بفضيحة القرصنة على هواتف المواطنين، لكن تقود خيوط الفضيحة إلى مؤسسات وجهات ذات صلة به، تثبت قدرته الأخطبوطية على إيصال أذرعه الى أماكن أبعد من عيون المراقبين. والمراقب للصحافة المحلية يستطيع أن يعرف أن قرارات الإيقاف هنا تختلف تمام الاختلاف عن تلك، والعلاقة ليست قانونية أبداً، وإن كانت هي مسألة يتم تفصيلها بمقاس يتناسب مع كل صحيفة وبحسب رغبات مقرر الوقف! ولا ينسى أحد القرار الذي تعرضت له (الأهرام اليوم) العام الماضي ثم أنصفها القانون، فقد كان القماش المفصل بغير القياس! لكن الفضائح والقرصنة التي تمارسها بعض الصحف على مؤسسات وأفراد، بل حتى جهات اعتبارية، فإنها لا ترى، كحالة (مردوخ)، بل تشترى بثمن سكوت يتوافق مع حجم العلاقة الأخطبوطية، وحجم الذي يتجرأ على إثارة مثل هذا الأمر! فأمر القرصنة في الصحافة المحلية يبدأ منذ المواد لكثير من المتدربين التي تجد حظها من النشر لكن بأسماء غير التي سموّهم بها آبائهم! وينتهي أو يبدأ بابتزاز الجهات والمؤسسات لاستخراج مصلحة خاصة، طبعاً هذا ليس في العموم حتى لا ينتفض الأساتذة الصحفيون دفعاً. فكما أن حالة الصحيفة البريطانية تمثل سلوك فئة من إداريي الصحيفة ومحرريها، ورغم أن الحريات المكفولة هناك للصحفي يمكن أن يسقط بها حصانة برلماني، فإن حالة القرصنة هنا تختلف جغرافية وحرية! فحرية الصحافة هنا مطاطة جداً ك (لستك القروش).. يمكن أن يمسك (الألف جنيه) أو الخمسة! وتجعل مجرد الحديث عن صيد التماسيح بمختلف أنهارهم الجارية من اللبن والعسل المنتج من عرق الشعب المسكين، غير قابلة إلا للتحفظ، إن كان للصحفي أو مادته أو للصحيفة بأكملها، وأعتقد أن حالة الصحفية (فاطمة غزالي) مثال على ذلك، مع أن القرار الصادر ضدها جنائي يمثل حجزها لرفضها دفع غرامة محكمة النشر! - هي مسألة شائكة - بغض النظر عن القضية المتعلقة التي تقع تحت بند صيد التماسيح كفعل أو كصفة! فصفة الصحفي، في أصلها، تجعله يحلف يميناً ذاتياً يجعله يتخذ من ضميره قاضياً ومن أدواته محكمة عليا ومن قلمه قاضي استئناف أو دستورياً، يراجع بدقة كل سطر يكتبه بوزر الاتفاق أو الضد في العام أو الرسمي. رسمياً هنا توجد حرية صحافة، لكنها محدودة بحدود ما يراه المسؤول مناسباً للصحفي، محدودة بسقف أشواقهم منه كعامل يغطي الأخبار، لكنه لا يقود رأياً ولا يؤثر إيجاباً في التغيير المجتمعي. لهذا عدنا إلى مربع قديم كانت الحكومة قد فارقته بذكاء إثباتها تخلصها من قراصنة السياسة، وهو مربع التحفظ وإلقاء القبض وإلغاء النبض المعاكس، المبرر لذلك ربما لأنه منعطف خطير جداً من تأريخ وجغرافيا وحياة السودان لا يحتمل التشويش أو الإثارة لفضائح قراصنة تثير حفائظ الهواتف ومستخدميها وشركاتها، أو ربما هي سياسة جديدة لصيد الأسماك الصغيرة، طعماً طازجاً لصيد التماسيح الكبيرة الرابضة بصمت مغدق النعمة ومغمض الخوف والعين والخجل، على طرف شاطئ النهر العظيم!