جوبا (قلعت الطرحة).. رمز الشمال، و(غيرت بالجينز).. وأمريكا ودول الغرب وعدوا الجنوبيين بأن يحولوا دولتهم الوليدة إلى جنة تفوح بأريج الديمقراطية.. ولكن هل تُولد الدولة الديمقراطية من العدم (إذن تكون أمريكا هي القابلة المعجزة).. فالدولة كائن حي ينمو بشروط التقنية والاقتصاد.. ليس في (بوتقة المعمل). ولكن في (مجرى التاريخ).. وظهور طبقات اجتماعية واعية بمصالحها تُحكم بالرضا وبالقيم الديمقراطية.. قيم تخضع لها الحكومة ذاتها. يَعِد الغربيون شعب الجنوب بالديمقراطية وبالدولة القانونية (قمة تطورهم هم).. الخواجات إما أنهم يدركون ويريدون أمراً آخر.. أو أنهم (جَنُو عديل) وأصابهم داء فقدان الذاكرة التاريخية.. (تاريخهم هم).. وتخيل كبار مفكريهم.. أصحاب الدولة القانونية ومنظري التعددية.. (يقدلون) في دولة القانون الجنوبية.. (لتصيبهم رصاصة طائشة من قانون الغابة).. هو إذن جنون الخواجات.. أو أن الأمر آخر، هو إدراكهم لضرورة القبضة المركزية (لا الديمقراطية) لضمان الاستقرار في دولة وليدة، كقانون تاريخي يعلمونه، وكضرورة لدولة يطمعون في خيراتها.. بل وتراعي سياسة أمريكا في أفريقيا، وهي مركزية حققها لهم الدستور الانتقالي لدولة الجنوب الوليدة.. وهي أيضاً الرغبة في التملك ( الجرثومة التي برع الطيب صالح في تشريحها.. عندهم).. والرغبة في التملك أيضاً جنون.. جنون الغربيين الهستيري والعبثي في الحرب العالمية الأولى ثم الثانية (والخوف من التالتة – نووية لا تبقي ولا تذر).. وحروب الوكالة التي تقوم بها الدول الصغيرة لصالحهم.. والحروب الأهلية التي (ينفخون على جمرها.. فيحيلونه لهباً).. وأصابنا من (نفخهم الناري) ما أصابنا في الجنوب.. والبقية تأتي. وما يهمنا في السودان ما يجري في جبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور.. وما يهمنا هو شخصية رئيس دولة الجنوب سلفاكير ميارديت.. ومن خطابه في احتفالات إعلان دولة الجنوب، نستقريء اهتمامه بدولة الجنوب وتنميتها وحل مشكلات الحدود والأخذ بسياسة عدم التدخل في الشمال.. وأمريكا تريد التدخل في الشمال ما بعد انفصال الجنوب وتريد هيكلة نظام الحكم فيه.. بينما حليفتها إسرائيل تريد تمزيقه إلى دويلات وفق سياسة معلنة.. وفي كل ذلك فسلفاكير ليس هو رجل أمريكا والغرب ولا رجل إسرائيل.. وهم يمدون أيديهم له الآن وفي (الخاطر آخر).. فسلفاكير لا يطمح إلى (السودان الجديد).. ولكن يهمه (تحديث دولة الجنوب).. بشروط تاريخية تجعله يُركِّز السلطات في يده.. (وإن بدأ حكيماً في ذلك).. وهو ما أقره الدستور الانتقالي لدولة الجنوب. عن جنون الأمريكان.. جاء على لسان سوزان رايس، مندوبة أمريكا في احتفالات إعلان دولة الجنوب، جاء على لسانها عن ديمقراطية الجنوب (الوعد الكاذب بلسان التاريخ.. لا لسان رايس): نسعى لتحقيق الرخاء في كل ربوع الدولة الجديدة ونأمل في حل القضايا العالقة بشكل سريع وسلمي في إطار دولة ديمقراطية.. أخبار اليوم 10/7). وجاء في بيان الاتحاد الأوروبي على ذات المنوال (إن الاتحاد يدرس اتفاق شراكة مع جمهورية جنوب السودان ويشجع مسؤوليها على احترام التعددية والتنوع بهدف إقامة مجتمع ديمقراطي ومنصف قائم على القانون واحترام حقوق الإنسان.. أخبار اليوم 10/7). أمريكا والاتحاد الأوروبي يعقدان شراكة مع الدولة الجنوبية الوليدة، بحديث لا معنى له عندهم.. عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والدولة القانونية، يتحدثون هنا التعددية.. وهي من شروط الدولة القانونية المتولدة من التحديث، أي وجود جماعات مصالح متعددة في تنظيمات حديثة (اتحادات.. نقابات).. أي مجتمع مدني (يولدونه من العدم في الجنوب).. ولكن عن حقيقة الأوضاع في الجنوب تقول صحيفة نيويورك تايمز (إن الاحتفالات في العاصمة جوبا لا تحجب الحقيقة وهي أن بناء دولة جديدة يستغرق عقوداً من العمل الشاق، وتقع المسؤولية في المقام الأول على جنوب السودان، وعلى الولاياتالمتحدة و المجتمع الدولي، اللذين رعيا اتفاق السلام الشامل.. نقلته عنها الصحافة 10/7). تقول النيويورك تايمز إن بناء دولة جديدة يستغرق عقوداً من العمل الشاق، وقانون التاريخ يقول بان بناء دولة جديدة يستوجب تركيز السلطات.. والديمقراطية في الجنوب والتي يلهج بها الأمريكيون والأوروبيون والجنوبيون، شرطها كما قُلت وجود المجتمع المدني.. والمجتمع المدني في الجنوب.. غائب، والروح القبلية تتحكم حتى في النخب والمثقفين، ومجتمع الجنوب هذا هو حاله في توصيف النيويورك تايمز (إن الدولة الرابعة والخمسين في أفريقيا تحتل آخر درجات السلم في العالم الثالث، فمعظم الناس فيها يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم وأكثر من 10% من الأطفال يموتون قبل أن يبلغوا الخامسة من العمر وأكثر من ثلاثة أرباع البالغين.. لا يقرأون). تشير صحيفة نيويورك تايمز إلى الاجتماع الدولي الخاص بالسودان. والذي عقده الرئيس الأمريكي.. أوباما، في نيويورك في العام الماضي.. وكان الغرض منه هو حشد المجتمع الدولي (على وجه الخصوص أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي).. لدعم دولة الجنوب.. ونجد تجليات الاجتماع المذكور في بيان أوباما عن الشراكة مع دولة الجنوب ودعمها وبيان الاتحاد الأوروبي.. سالف الذكر، ونجده في قول الصحيفة (في خطوة تحفيزية.. عرضت الولاياتالمتحدة وحلفاؤها عقد اجتماع دولي خاص بجنوب السودان وهذا سيسمح للقادة الجنوبيين بتقديم خطط لتشجيع الاستثمارات).. والاستثمارات في موارد الجنوب ونفطه هما بيت القصيد، وليمان.. مبعوث أوباما.. للسودان، اعترف (بأن أمريكا تتوجه للاستثمار في الجنوب.. الأحداث 7/7). والاستثمار يتطلب الاستقرار.. فهل يكون سلفاكير هو رجل أمريكا الذي يحقق استقرار الجنوب؟ قد يصلح سلفاكير لهذه المهمة لحكمته (فهل سيكون رجل مرحلة).. فكما قُلت فإن ما يهم سلفاكير هو جنوب السودان وتنميته، واهتمامه وسياسته.. ينحصران في الجنوب والحدود الآمنة مع الشمال، والمصالحة الوطنية في الجنوب.. والأخيرة هي أيضاً مطلب أمريكي، ولكن إستراتيجية أمريكا في أفريقيا، ومنها تدخلها في شؤون الشمال وفي جبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور، تتناقض مع سياسة سلفاكير ونستقرئ ذلك من خطابه الذي ألقاه يوم إعلان دولة الجنوب.. عن الوضع الذي يعيشه الجنوب وإسقاطه على الشمال في السابق.. وبعد إعلان دولة الجنوب، سقطت هذه الحجة، التي كان يؤمن بها سلفاكير.. ذاته، يقول سلفاكير مستنهضاً همم الجنوبيين لتحقيق التنمية (من اليوم ليس لنا أي عذر أو أي جهة نلومها.. والمسؤولية تقع على عاتقنا لحماية أنفسنا وأرضنا). حماية الأرض تتضمن تجنب الدخول في حروب على الحدود وفي ذلك يقول سلفاكير (نتمنى أن لا ندخل في مواجهات مع أي جهة حول الحدود).. وهذا يعني صدق سلفاكير في معالجة القضايا العالقة مع الشمال.. ويقول عن جبال النوبة والنيل الأزرق (سوف أسعى جاهداً مع أخي البشير للوصول لسلام دائم في هذه المنطقة)، فما يهم سلفاكير هو الحدود الآمنة والمصالحة الوطنية الجنوبية والتفرغ للتنمية ومحاربة الفساد.. يقول (أنا التزم أمامكم أن أقوم بكل ما في مقدوري وأن أزيل كل النقاط السلبية وأن أعمل جنباً بجنب مع كل شركائنا في التنمية لتحقيق طموحاتنا، وفي الحسبان معاناة طويلة، وبالتالي فشعب جنوب السودان لا يحتمل أي تأخير في التنمية.. ويجب أن يتشارك مواطنو الجنوب الاهتمام في عملهم وسلوكهم ويحترمون كافة جيرانهم.. وجيرانهم في الشمال.. ونتمنى صادقين أن تُحل كل القضايا العالقة بيننا). هذه هو ما يهم سلفاكير: الحدود الآمنة وحُسن العلاقة مع الشمال.. كشرط لتنمية الجنوب.. إذ تربط الجنوب بالشمال مسألة نقل بترول الجنوب عبر أنابيبه الموجودة في الشمال.. ومصافي تكريره أيضاً. وعن المصالحة الوطنية في الجنوب يقول سلفاكير (علينا أن نحل كافة إشكالياتنا بالحوار والنقاش وأن نرعوي عن كل أوجه العنف ونركِّز على مبادئ الحرية والديمقراطية.. وإنها مسؤوليتنا الآن أن نحبط كل الوسائل غير الديمقراطية.. ووسائل العنف كلها أثبتت فشلها، وأود أن أعلن الآن العفو العام عن كل الذين حملوا السلاح في وجه حكومة جنوب السودان). سلفاكير يعلن العفو عمن حملوا السلاح ضد حكومته ويدعو للحوار.. ولكن ذلك يتناقض مع متطلبات خلق دولة جديدة (أي تركيز السلطات).. وهي أمر قننه الدستور.. حيث (أجاز المجلس التشريعي لجنوب السودان، دستور جمهورية جنوب السودان الانتقالي، في جلسة امتدت لأكثر من 15 ساعة، بأغلبية أصوات الأعضاء، ليكون أول دستور للدولة الجديدة، وأجاز نواب المجلس الذين حضروا الجلسة وعددهم 145 عضواً، الدستور الجديد بأغلبية 140 صوتاً يمثلون الحركة الشعبية وعدداً من الأحزاب، فيما عارض 5 من النواب، المنتمين لحزب الحركة الشعبية التغيير الديمقراطي، الذي يتزعمه القيادي السابق بالحركة د. لام أكول.. إجازة الدستور.. أجراس الحرية 7/8). اتساع صلاحيات الرئيس في الدستور.. من دواعي إرساء دعائم أية دولة وليدة.. ولكن الجنوب مجتمع قبلي.. وسلفاكير من الدينكا، أكبر قبائل الجنوب، ولها السيادة، قد يحاول سلفاكير الموازنة في السلطة لإرضاء كافة قبائل الجنوب، ولكن تبقى حقيقة أنه من الدينكا.. غالبة، والنوير، ثاني قبائل الجنوب، هي صاحبة أرض البترول، وعليه فإن الصراع القبلي المسلح في الجنوب سيستمر ويُظهر الجانب العسكري عند سلفاكير.. تؤجج نيرانه عاطفة القبيلة وعصبيتها من حوله. لننتهز الفرصة وفي الشمال يوجد مجتمع مدني تشكل في اتحادات ونقابات نشأت منذ سنوات الاستعمار الإنجليزي للسودان، وشاركت في إجلائه، وبعد الاستقلال أسقطت قوى المجتمع المدني حكومات عسكرية.. وكانت قضايا جماعات الهامش قي قلب مطالب ثورتي أكتوبر وابريل، فلننتهز الفرصة ونمد يدنا لأهلنا في أطراف السودان فهم إما أن يستمروا في الشمال أو أن يصبحوا في دول مستقلة يتناوشها الجيران أو ينضم بعضهم لدولة الجنوب (حيث قبائلها متناحرة في ما بينها دعك عن الوافدين). ولكن في الشمال، فضمان الحفاظ على حق أهلنا في أطراف السودان في الحكم وإدارة شؤونهم سيضمنه المجتمع المدني الذي أشعل من أجلهم ثورتين.. صحيح أن الإنقاذ قد كسَّرت أجنحة الاتحادات والنقابات ولكن القوى التي انتجت هذه المنظمات موجودة ومؤمنة بحقوق جماعات الأطراف.. وهذا هو ديدن جميع الأحزاب.. حتى بعض أهل الحزب الحاكم يؤمنون بذلك (وإن كابر المؤتمر الوطني في بطء تحركه وتشبثه بالسلطة).. والمطلوب هو أن يقلع الحزب الحاكم عن تشبثه بالسلطة في تجمع يضم قوى المجتمع المدني والأحزاب وأهلنا في أطراف السودان.. والخروج بدستور يطمئنهم.. وهنا قد تكون (رسالة علي حسنين.. من بلاد بره).. تكون مفيدة، أن تصبح رئاسة الجمهورية دورية لكل أقاليم السودان.. ونضيف إلى رسالة حسنين تشكيل (مجلس دفاع مشترك).. تُمثّل فيه كل أقاليم السودان.. كضمان لحقوق الجميع.. (ويا أهل الإنقاذ سلام: عليكم الله يا جماعة.. عزو الرسول يا جماعة.. ساعدونا يا جماعة.. نستعطفكم ولو ما البلد مليانة سلاح كُنا سوينا البدع في الشوارع.. فنحن أصحابها.. قُبال التوانسة والمصريين والليبيين).. ولكن أيضاً، الثورة فعل عاطفي غير عقلاني تتراكم الخبرات والمعاناة والكبت في اللاوعي فتخرج الجماهير إلى الشارع.. وهذه المرَّة (ستكون القيامة).