يصادف اليوم ذكرى انقلاب 19 يوليو 1971م الذي تسلمت السلطة فيه مجموعة من الضباط المعارضين المعروفين بولائهم للحزب الشيوعي وتم وأدها في الثاني والعشرين منه وما تبعه من أحداث بيت الضيافة وإعدامات الشجرة الشهيرة التي اكتنفها الغموض حتى اليوم حول كيفية الإعدامات وأين دفنت الجثامين وظلت شيفرة الوصول إلى مقبرة من تم إعدامهم مصدر اهتمام دائم خاصة لأسر الشهداء، أبرزهم هاشم العطا، عبد الخالق محجوب، والشفيع أحمد الشيخ، وجوزيف قرنق، وهذا بالطبع يفتح باباً واسعاً في ما يعرف ب(الإعدام السياسي) تلكم السمة التي لازمت كل الأنظمة السياسية في تاريخ الحركة السياسية السودانية، أشهرها تمت إبان حكم الرئيس الراحل جعفر نميري أو ما عرف بحقبة مايو وتبدو الأسباب كالعادة سياسية مختلفة منها الفكري والعقائدي مثل حالة (محمود محمد طه) أو سياسية كالإعدامات التي أعقبت انقلاب ظهر الاثنين 19 يوليو 1971 بقياده هاشم العطا وانتهى بإعدامه ومجموعته؛ فاروق عثمان حمد الله وبابكر النور وعبد الخالق محجوب وآخرين، لكن رغم السرية التي تفرضها الأنظمة عن حقيقة الإعدامات وأماكن مواراة الجثث الثرى إلا أن المعلومات تتكشف عادة بعد زوال الأنظمة، إلا أن الحالة نجدها مغايرة في نظام مايو حيث ما زال الغموض يكتنف مصير الذين أعدمهم النميري حتى بعد انتقال عدد من رموز السلطة آنذاك إلى الدار الآخرة. هاشم العطا ويرى الكثير من المحللين أن إخفاء المقابر ربما يتم بدافع درء الفتنة والحفاظ على حياة أحفاد من قاموا بالفعل أو كما قال بعضهم وفي حوار أجرته (الأهرام اليوم) مع وزير الدفاع الأسبق عبد الماجد حامد خليل نفى علمه بمكان وجود جثامين الشخصيات التي أعدمت في نظام مايو لكنه ربما كان يخفي كثيراً من المعلومات المرتبطة بثورة مايو من واقع موقعه كوزير للدفاع في فترة أعقبت ثورة 1971 لكنها تزامنت مع إعدامات أخرى وبرر كتمانه للسر خوفاً على حياة بعض الشخصيات وأحفادهم ولكن السؤال ما زال يتكرر اليوم بعد مرور 40 عاماً على الحادثة: أين تم دفن هؤلاء وكيف جرى ذلك وهل هناك مسوغات قانونية استندت عليها السلطة وقتئذ تسمح بعدم كشف أماكن رفاتهم؟ وماذا عن النواحي الدينية المتبعة في هذا الإطار خاصة وأن هناك إصراراً من أهالي من تم إعدامهم على معرفة قبورهم وأين اختفت متعلقاتهم وما هي آخر وصاياهم؟ (الأهرام اليوم) حاولت التنقيب عن قبور من أعدموا باستنطاق أسرهم حول مدى معلوماتهم عن مكانها أو مقترحات لمناطق محتملة تم بها الدفن وابتدرنا حديثنا مع ابنة الرائد هاشم العطا (هند) التي أكدت أن سلطة مايو بكل جبروتها آنذاك كانت حريصة على إخفاء أماكن قبور شهداء 19 يوليو وطبيعة وصاياهم وتقول هند هذا المنهج السلطوي ينطلق من رؤية فاشية قائمة على محو ملامح آثار أبطال الحركة ورموزها ومحاولة إخفاء ذكراها من سجل التاريخ وأشارت إلى قيامهم باتصالات عدة للوصول إلى خيوط تقود إلى إماطة اللثام عن قبور الشهداء «لكننا لم نصل إلى أي معلومات صحيحة تحقق الحلم المنشود بل حتى وصاياهم والمدونات الشخصية كان مصيرها مجهولاً أيضاً»، وتمسكت هند بإصرارهم على مواصلة عملية البحث والتنقيب وأضافت: «لم يدب اليأس في نفوسنا يوماً». وفي السياق تشير شقيقة فاروق حمد الله السيدة (الزلال حمدالله) إلى أنهم ليس لديهم أي معلومات عن مقبرة فارق وأضافت أن زوجته حاولت الاتصال بجهات مسؤولة في حكومة الإنقاذ لمساعدتها في استنطاق شخصيات ذات صلة بالموضوع لكن فشلت في الحصول على معلومة تثبت جهة الدفن كما أنه لم يؤكد أي منهم حضوره لحظة الإعدام وأضافت: «تم إخفاء ساعة تنفيذ الإعدام»، وتواصل (الزلال): «والأمر من ذلك كانت قد تسربت شائعة روجت بعدم تنفيذ إعدام فاروق حمد الله مما أعطانا أملاً في الوصول إليه وعندما قرأنا خبر إعدامه بالصحف كانت الفجيعة أكبر» وأشارت إلى حدوث تمويه للحظة الإعدام حيث صرفت مجموعة من أقارب فاروق كانوا في طريقهم إلى الحزام الأخضر عن مواصلة السير بحجة أن الإعدام أجل إلى يوم غد. ومن ناحية أخرى تذكر معظم الروايات حول هذا الموضوع أن المحاكمات تمت بمنطقة الشجرة العسكرية بحق المتهمين لكن لم تتم الإشارة إلى أي منطقة تمت بها مواراة جثامينهم الثرى غير الاستنتاجات التي اقترحت أن يكون الدفن تم في ذات المنطقة، ويشدد القانوني دكتور علي السيد بأنه أخلاقياً وقانونياً ينبغي الكشف عن أماكن رفاتهم ويقول: «لكن الأنظمة السياسية تخشى رد الفعل وتحويل تلك القبور إلى مزارات أو تثير الشجون لذلك يلجأون إلى رمي الناس في البحر أو يخفون أماكن مقابرهم محافظة على الشعور الإنساني ويظنون أن بإخفائهم القبور سيخففون من شعور الأسر»، ويضيف السيد: «أخلاقياً ودينياً مفروض يعلنوا لذويهم محلات دفنهم»، ويربط دكتور علي السيد ذلك بحادثة إعدام محمود محمد طه الذي لا يعرف أيضاً أين مكان قبره وردد أنه حمل في طائرة ورميت جثته في البحر الأحمر لكن لا توجد تأكيدات حتى الآن ويشير إلى أنه من الصعوبة تأكيد ذلك ما لم تقم الأنظمة بهذا الدور. ويؤكد دكتور يوسف الكودة أنه لا يجوز شرعاً إخفاء جثة الميت عن أهله ولا بد من تسليم الجثامين لأهلها ليصلوا عليها. ويقول دكتور الكودة إن ابن آدم مكرم وحرمة ابن آدم المسلم أعظم من حرمة الكعبة ولذلك لا مانع من أن يتهم الإنسان ويحاكم وإذا كان الحكم بالإعدام فعلى الجهات التي أعدمت المتهم أن تسلم جثمانه لذويه ليصلوا عليه ولا يجوز أبداً أن يلقى به في بحر أو يخفى جثمانه. ويضيف: «الحكومة قبل تنفيذ القرار عليها ترجيح المصلحة قبل أن تفكر في أن يتخذ قبره مزاراً أو يصبح ولياً من أولياء الله وعلى السلطات أن تدفنه بنفسها في مقابر المسلمين بدل إخفاء الجثة». وفي حال اكتشاف مقبرة من أعدموا بعد كل هذه السنوات يقول الكودة: «إذا تأكد أنه لم يصل عليهم صلاة الجنازة فيمكن أن تقام عليهم صلاة الغائب وإذا وجد الدفن في صحراء أو مكان آخر فيجب نبش القبر وتحويل الرفاة إلى مقابر المسلمين ويعد ذلك أفضل للميت». يجدر ذكره أن الضباط الذين تم إعدامهم كانوا أحد عشر ضابطاً وهم: عقيد عبد المنعم محمد أحمد، مقدم عثمان حاج حسين أبو شيبة، مقدم محجوب إبراهيم طلقة، مقدم (م) بابكر النور سوار الذهب، رائد (م) هاشم العطا، رائد فاروق حمدالله، نقيب معاوية عبد الحي، نقيب بشير عبد الرازق، ملازم أول أحمد جبارة مختار، وملازم أول أحمد عبد الرحمن الحاردلو بالإضافة إلى آخرين حوكموا بالسجن المؤبد والتجريد من الخدمة العسكرية.