{ كانت قمَّة الحلم في ما مضى أن تصبح طبيباً.. ماخرجت (زغرودة) من منزل من المنازل أعمق من زغرودة ذوي خريج الطب.. فالقرية عن بكرة أبيها لا يعرف لها وصفاًًً سوي (بيت الدكتور).. والآن أصبح الطب معاناة مقيمة في نفس كل طبيب، إلاَّ من رحم ربي.. وللرحمة أوجه، وهي إمَّا أن تكون ثريَّا بالفطرة، أو أن تمتص دم الغلابى في عيادة ما، أو أن تكون ذكيَّاً إلى الحد الذي يكفي لاستقطابك لإحدى الدول الأخرى لتستفيد ماديَّاً، ويستفيد المرضى هنالك كليَّاً، ويتدمر وطنك جزئيَّاً..! أو أن تظل - كما أنت - طبيباً (يركب المواصلات) ويمشي في الأسواق ويكابد من أجل (لقمة العيش).. فلمَ لا يكون مهموماً، ولمَ لا ينسى ولم لا يُحبط وهو الأعلى نسبة في الدفعة.. وها هو يختال فخراً بشهادته ويمشي فارغ اليدين.. الأطباء.. إنهم عالم من الإنسانية تحفُّه المصاعب من كل اتجاه.. عميق ما أحدثه الزمن في قلوبهم من جراح.. وليتهم يجدون منهجاً يعلمهم كيف يضمِّدون جراحهم حتى لا ينطبق عليهم مثل (النجار البابو مخلع)..! {{ نافذة على القلب حتى وقت قريب كنت أفرح جداً حينما أرى طبيباً يتحدث إلى شخص ما.. لأن هذا على غير العادة، وأقول في نفسي (ياربي الدكاتره ديل بضحكو وبتونَّسو زيَّنا كدي).. ربما هي قدسيَّة تليق بهذه المهنة. {{ نافذة على الشارع ضحكت حتى البكاء وأنا أتجاذب أطراف الحديث مع د. عبدالمنعم أبو محمد، وهو يروي بعض الطرائف التي مرَّت به وهو يمارس الطب في إحدى القرى النائية.. فقال: (والله عندنا مواقف تبكِّيك عديل).. فقاطعته: (زي شنو)؟ فحلق بعيداً وكأنما سيأخذ قصته من الفضاء الطلق.. ورد مبتسماً: (مرَّه جاني واحد عيان، وبعد ما شخصنا حالتو وأدّيناه العلاج، قلت ليه: حبَّة بعد الفطور وحبَّة بعد الغدا، وحبَّة بعد العشا.. وضحك الراجل لمَّن قعد وقال لي: خلُّو العشا.. حرَّم أنا فطور ما حاريهو)..! واسترسل في حديثه: (مرَّه كمان جا راجل معاهو مرتُو.. لقيت دمَّها خمسه وعشرين.. قلت ليهو ما في حل إلاَّ يدُّوها دم.. قال لي: خلاص أدِّيها هسَّع.. فضحكت وقلت ليه: ما هنا.. إلا في مستشفى، فقال لي: عليَّ الحلف يا تكبكبنا سوا.. يا بخلِّيها ليك هنا وإنت اتصرف)..! كان الله في عون السادة الأطباء. {{ خلف نافذة مغلقة أيقنت أنَّك وحدك الطب الذي ما ارتاده الطلاب غيري.. لا سيدركه سواي.. وأنَّه ليس هنالك أدنى احتمال لممارستي له، لأنك أنت المريض والطبيب في آن واحد.