المبدعون وشعراء بلادي يحترقون مثل شمعات الشتاء.. تذوب عصارة أفكارهم وهم يقدمون الإبداع والجمال والظلال.. وأذكر أن الشاعر الراحل إسماعيل خورشيد كان يجوب أم درمان راجلاً وكان يقطع مساحات التعب وابتسامته العذبة مرسومة على شفتيه، ومات فقيراً مُعْدماً رغم أنه كان يُغذي الناس بالشعر والتمثيل.. وحتى الشاعر محمد بشير عتيق رحل عن دنيانا ولم يترك إلا قوافيه المُترفة ولم تجد ورثته إلا (الأوصفوك.. وفي غفلة رقيبي).. وبقايا القصائد اللوامع.. وكذلك الشاعر عوض جبريل الذي شغل القليب والناس بروائعه الفذة. الوفاء للمبدعين أصبح عملة نادرة الوجود.. ولا يحدث الاحتفاء بهم إلا بعد أن تتوارى أجسادهم تحت التراب.. لجنة المصنفات الأدبية وحقوق المؤلف أعطت الشعراء حقوقهم في ظل القانون الجديد ولم يستفد منه إلا أبناؤهم.. بمعنى أن حقوقهم المالية خرجت بعد أن توفاهم الله.. وذهبت إلى أهلهم وذويهم وهم قبل مماتهم كانوا يعانون ويعانون.. والغريبة أن أبناء هؤلاء الشعراء يملأون الدنيا ضجيجاً ويتحدثون عن الحقوق والأموال ويشترطون على الفنانين.. ونحن نتساءل أين كان هؤلاء الأبناء عندما كان آباؤهم يتحملون الرهق والمكابدة لوحدهم؟!.. أنا لا أريد أن أضرب الأمثلة لكن من يلاحظ التصريحات التي تخرج بها الصحف يومياً تُبين لنا أن هؤلاء الأبناء باتوا يتاجرون بالقصائد التي كتبها الآباء في السابق. إننا حقيقة أمام قضية شائكة لا نعرف من يتحمل مسؤولياتها، هل هي اللجنة التي انتظرت رحيلهم وقدمت لهم المقابل المادي، أم في جشع هؤلاء الأبناء الذين حوّلوا الإبداع إلى مزاد وعطاءات؟ ولو عاش هؤلاء الشعراء واستلموا حقوق قصائدهم التي كتبوها بالعرق والدم والنبض لتذوّقوا طعم الوفاء واتسعت ابتساماتهم بمقدار ما تجود به قصائد أخرى مضمخة بلون الفرح والسعادة. إننا لا نحترم قيمنا وجمالياتنا وأخلاقياتنا بالقدر الكافي، ولا نعرف متى نقدم الوفاء والاحتفاء. إن التكريمات (المشاترة) والشعارات البرّاقة أفرزت لنا شريحة لا يربطها بالإبداع إلا شهادات الميلاد وحتى الجينات الوراثية للفن لم نقدم الأنموذج الأمثل لنكتب نحن في زمن النكسة. إن الشعراء يموتون جوعاً ومرضاً بينما يقبض أبناؤهم فواتير العطاء! حقاً إنها دنيا لا يملكها من يملكها أغنى أهليها سادتها الفقراء.