حين يكون المكان هو البرلمان، فإن الجميع بداخله يرفضون مبدأ حل المشكل القائم في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان عبر المفاوضات مع الحركة الشعبية. ربما رأى البعض هذا الرفض موقفاً انفعالياً عاطفياً دلت عليه فرقعات الأيدي التي صفقت لوزير الدفاع الفريق أول مهندس عبد الرحيم محمد حسين، في الجلسة البرلمانية الطارئة التي استعرض فيها الموقف العسكري، ففوضه أصحاب تلك الأيدي لحسم ما تبقى من صراع مع الحركة الشعبية عسكرياً وصادقوا على فترة مفتوحة لحالة الطوارئ المعلنة. سمات القرار ربما برزت أكثر وضوحاً في حالة التواصل الاجتماعي، وسلام الأحضان اللذين يتبادلهم النواب من الحركة الشعبية ونظرائهم من المؤتمر الوطني صاحب الاغلبية في البرلمان. ورغم هذا فإنك لن تسمع كلمات مهادنة من نائبة رئيس البرلمان؛ سامية أحمد محمد، إذا ما قدر لك أن تناقشها في أمر الحركة الشعبية، فالمرأة صاحبة المسبحة الكهرمانية السوداء لا ترى في الحركة الشعبية إلا (جماعة متمردة)، خرجت على القانون، ولا يمكن إعادتها إلى الصواب إلا بالسلاح. لكنها تجتهد ما أمكن في تمتين حد فاصل ما بين كيانين من الحركة الشعبية، سيكون بالطبع أحدهما ذلك الذي اتخذ موقعه في الكهوف ومرتفعات الجبال. ولا ترى سامية في حديثها لعدد من الصحافيين - الذين قابلوها في مكتبها منتصف الأسبوع الماضي - لا ترى أن ثمة ما يمكن التفاوض حوله في الوقت الراهن مع الوالي المقال مالك عقار، إذ تعتبره خائناً للشرعية التي منحها له الناخبون. لكن ما تواتر من حديث خلف الكواليس يقول إن رفض التفاوض أو الحديث عنه، يصدر مباشرة من القيادات العليا لحزب المؤتمر الوطني، إذ يقول محدثي النائب البرلماني المنتمي حديثاً للحزب، إن قيادات حزبه العليا لا تفضل الركون إلى التفاوض قبل أن تخلق عبر الجيش واقعاً سياسياً جديداً على الأرض، يتيح على حد قوله إنهاء قوة الحركة الشعبية السياسية والعسكرية، وفصلها عن أمينها العام ياسر سعيد عرمان الذي يمثل عدواً لدوداً لسياسات المؤتمر الوطني في المركز. وكشف محدثي الذي فضل حجب اسمه عن مبادرة وفاقية كان قد قادها مع عرمان في وقت سابق قبل تفاقم الأحداث، مستفيداً من العلاقة الاجتماعية التي تربطه به، لكنه لا يجرؤ في هذا التوقيت على المطالبة بإعادة تلك المبادرة مجدداً، خوفاً من ردة الفعل الغاضبة، التي تنجم من كراهية أغلب أعضاء حزبه لعرمان. والأمر كذلك، لا يبدو أن من بين نواب المؤتمر الوطني من يراهن على العبور نحو السلام في النيل الأزرق وجنوب كردفان عبر بوابات التفاوض، على الأقل في هذا التوقيت، خاصة و أن سفن (الوطني) تسير مدفوعة بذات الرياح والتكتيكات المفضية إلى تصفية (الحركة)، وتقسيمها إلى كيانات يصعب لملمتها، ولا بأس - على حد قول محدثي سالف الذكر - في مزيد من الحرب قبل الجلوس للتفاوض. ربما يمكن قراءة هذا المشهد معطوفاً على فشل وساطة رئيس الوزراء الإثيوبي؛ مليس زناوي، التي جاء من أجلها إلى الخرطوم مرتين خلال أقل من شهر. فضلاً عن «تناص» المشهد برمته مع تصريح النائب الأول لرئيس الجمهورية الأستاذ علي عثمان، الذي أكد أن السلام في النيل الأزرق لن يكون إلا «بكسر شوكة الأعداء وهزيمة التمرد والخيانة، وأنه لا عودة لمن غدروا وخانوا الدمازين إلا بميزان الحق المنتصر وسيف الحق البتار». ورغم اللغة العسكرية الحاسمة إلا أن التكتيك السياسي في تقسيم (الحركة) وإسقاط عضوية نوابها من البرلمان قد يبدو تحليلاً وارداً لحديث سامية أحمد محمد - أو هكذا فهمه أحد نواب (الحركة) الذي حدثني ونحن نقف على أحدى الشرفات بالبرلمان - إذ تقول سامية إن البرلمان الذي يسيطر عليه حزبها لا مانع لديه من قيام نواب الحركة الشعبية الموجودين بالبرلمان - عددهم 5 فقط - من إعادة تسجيل حزبهم تحت مسمى آخر لدى مسجل الأحزاب، بعد حظر نشاط الحركة الشعبية التي كان يرأسها الرئيس الحالي لدولة الجنوب سلفاكير ميارديت، ضمن (17) حزباً جرى عليها قانون الجنسية، بل بدت أكثر تعاطفاً مع هؤلاء النواب برفضها لفكرة إسقاط عضويتهم من البرلمان، وقالت إن وجودهم فيه لا تمسه المادة 87(1) الفقرة (ه) التي تنص على إسقاط عضوية النائب حال (تغيير الانتساب السياسي أو الصبغة السياسية أو الحزب الذي انتخب العضو بموجبه لعضوية المجلس الوطني)، وهي ذات الفقرة التي اعتمدت في لائحة تنظيم أعمال البرلمان لسنة 2010م، بل ذهبت للقول إن بقاء نواب الحركة الشعبية بالبرلمان يتم بناءً على التفويض الممنوح لهم من قبل مواطني دوائرهم الانتخابية، رغم إقرارها بوجود معضلة قانونية في تفسير قرار مجلس الأحزاب من جهة، ولائحة تنظيم أعمال البرلمان المتطابقة مع المادة (87) من الدستور من الجهة الأخرى.