وأخشى أن يكون لها ضِرام فإن النار بالعودين تذكى وأن الحرب أولها كلام صحيح أن القصة كلها تُدار من وراء البحار من قبل «الشغيلة الكبار»، وخلال عقدين من الإنقاذ اتخذت تلك القوى مجموعة من «الشغيلة الصغار» في المنطقة لأجل أن تكون الإنقاذ في «حالة حرب» مستمرة لدرجة عدم التقاط أنفاسها، فكانت دراما وسيناريوهات الحركة الشعبية لتحرير السودان، ثم استخدام دول الجوار في جبهة امتدت لآلاف الكيلومترات من البحيرات جنوباً إلى سفوح البحر الأحمر شرقاً، ثم صناعة وتركيب «حركات دارفور المتمردة» والدفع بها إلى مسرح الأحداث المُثخن أصلاً بالجراحات، وذلك في حبكة مدهشة ظاهرها العدل والحرية والمساواة والتحرير وباطنها «اقتلاع جذور نظام الإنقاذ»، إرهاق الحكومة وتبديد وقتها في مفاوضات ماراثونية مرت بأبشي، وإنجمينا، وسرت، وأسمرا، والدوحة، وأبوجا، عواصم قد قصصها الإعلام ومدن لم يقصصها ولم يعرف إليها سبيلاً، وصولاً إلى أزمتي جنوب كردفان والنيل الأزرق المستعرتين حتى كتابة هذا المقال. والقصة كلها ينظر الغرب «الممول الأكبر لكل الجبهات والحركات» على أن الإنقاذ هي الحكومة الخطأ في الزمن الخطأ في المكان الخطأ، بحيث أنها أتت في أزمنة «الخضوع للبيت الأبيض»، ويفترض أن أي حكومة تولي وجهها شطر البيت الأبيض في واشنطن مستديرة قبلة المسلمين مكة وراء ظهرها، وأن الظاهرة الإنقاذية إذا ما تركت فإنها ستحرِّض الآخرين على الخروج من بيت الطاعة الأمريكي. كل ذلك معروف، لكن السؤال المحوري في هذه الحلقة هو، هل الإنقاذ استغلت هوامش سقوفاتها المادية والفكرية المتاحة وتوظيفها التوظيف الأمثل لصناعة «الأمن الغذائي السوداني». سيما وأنها قد ارتكزت من أول يوم على «شرعية الخبز والتحرير» لما جاءت من أول يوم تهتف «نأكل مما نزرع»، وإن صادفت الإنقاذ نجاحات مقدرة في ميادين كثيرة، إلا أن ميدانها الحقيقي الزراعي لم تُحرز في مواده نسب نجاح يُشار إليها، وأنا هنا لا أود أن أعيد إنتاج سمفونية عدم نجاحها في استغلال الطاقة المتاحة قبل حوادث «انفصال النفط» عن اقتصادياتها.. ولكن التساؤل الذي يفرض نفسه الآن هو هل تشكَّلت للإنقاذ الآن قناعة ترقى لدرجة الإرادة لتبدأ خطوة جادة في تأمين الأمن الغذائي، كأن تكون الحكومة القادمة هي «حكومة نفير زراعي» واسعة أو عريضة لا فرق؟، إذ لم يكن هم الجماهير رؤية السيد فلان أو علان على طاولة مجلس الوزراء، بقدر ما همها الأكبر في ظل احتدام وطأة أسعار الغذاء أن ترى «القمح» والخبز على مائة أجندة الحكومة، أن تأتي الحكومة دارفورية، كردفانية، نيلية، أو صحراوية، فهذا لا يعنينا في شيء، ولكن الذي يعنينا أن تكون حكومة إنتاج زراعي وحيواني. لم يصبر الشعب السوداني مثلما صبر على تشكيلات الإنقاذ عبر مراحلها المختلفة، ولا أتصور، والحال هذه، أن هناك المزيد من «المخزون الإستراتيجي من الصبر والاحتمال، علماً بأن اشتعال أوار الأسعار هو أحد مرتكزات ثورات الربيع العربي.. مخرج.. نحتاج أن يخرج علينا السيد الرئيس البشير شخصياً ليؤكد أنهم في هذه النسخة الأخيرة، سيجعلون من الخبز والزيوت والبطاطا والسكر واللحوم والخضروات مأدبة لأجندتهم، هذا أو الخلاص والطوفان والرحيل.