أثار قرار مجلس حقوق الإنسان الصادر في خواتيم سبتمبر المنصرم الذي تبناه بموجب مشروع قرار تقدمت به المجموعة الأفريقية وقضى بانتقال وضع السودان من البند (الرابع) إلى البند (العاشر) غُباراً كثيفاً في الساحة السياسية السودانية، فبينما قللت المُعارضة من القرار واعتبرته مُكافأة للحكومة على فصل جنوب السودان اعتبرت الحكومة حديثها محض (مماحكة) سياسية. قرار المجلس الذي تبناه بموجب مشروع قرار تقدمت به المجموعة الأفريقية هو انتقال لوضع السودان من البند الرابع (بند الإجراءات الخاصة) أي القضايا التي تشغل اهتمام مجلس حقوق الإنسان إلى البند العاشر وهو بند بناء القدرات والمساعدات الفنية بناءً على إجماع الدول الأعضاء ال(47) في مجلس حقوق الإنسان على مشروع القرار المُقدم من المجموعة الأفريقية التي تترأسها السنغال مدعوما من المجموعة العربية برئاسة مصر. (1) القوى المُعارضة أبدت سخطاً واضحاً على القرار وعدّت تحويل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لمُهمة الخبير المستقل محمد عثمان شاندي في السودان من البند (الرابع) إلى (العاشر)، مُكافأة لحكومة الخرطوم لإجرائها استفتاء جنوب السودان واعترافها به كدولة جديدة، متهمةً المجموعة الأفريقية والأوروبية داخل مجلس الأمن بمساندة الولاياتالمتحدةالأمريكية بالضغط لتحويل قضية حقوق الإنسان في السودان من مسألة مهنية إلى قضية سياسية. وقال عضو التحالف المعارض، الناطق باسم حزب البعث العربي الاشتراكي؛ محمد ضياء الدين، ل(الأهرام اليوم) (الجمعة) الماضي إن ما حدث تجاوز صريح وصارخ للموقف الحقيقي لقضايا الحريات وحقوق الإنسان في السودان، وإن فيه هزيمة مهنية للمنظمة الدولية التي تناولت الأمر من زاوية ما تم إنجازه في استفتاء تقرير مصير جنوب السودان. من جهته كان وزير الخارجية علي كرتي قد اعتبر إن تعيين محمد عثمان شاندي كخبير مستقل لحقوق الإنسان في السودان هو بالأساس (تعيين سياسي)، واصفاً موقف قوى المُعارضة في تلخيصها للأمر على أنه (مُكافأة) للحكومة بأنه (مُماحكة)، ونوّه إلى أن قوى المُعارضة تضيع وقتها وتحب رؤية السودان دائماً في موضع المُتهم داعياً إلى ضرورة الاستفادة من الصورة الجديدة التي يُقدمها السودان ويستفيد منها بدلاً عن إضاعة الوقت في (المُماحكات) الداخلية. (2) السيرة الذاتية لشاندي تقول إنه قانوني ضليع عمل مُدعياً عاما في (تيمور الشرقية) بعد انفصالها من إندونيسيا في استفتاء تقرير المصير بعد حرب امتدت لسنوات وقد شغل هذا المنصب مُسلحا بخبرته من خلال عمله مُدعياً للمحكمة الدولية الخاصة برواندا وهي الوظيفة التي شغلها منذ العام 1996م. وقد أصدر في يونيو 2009م مؤلفا ضخماً بعنوان: (المحاسبة على انتهاك القانون الإنساني الدولي رواندا وتيمور الشرقة دراسة حالة). في العام 2004م عينه الرئيس التنزاني (جاكايا كيكويتي) قاضياً لمحكمة الاستئناف العُليا في تنزانيا مع ثلاثة قضاة آخرين. (3) مجلس حقوق الإنسان صادق على مشروع القرار الذي يدعو إلى انتقال السودان من (مطرقة العقوبات) إلى مرحلة بناء القدرات مُبرراً هذا الانتقال حسب ما ورد على لسان ممثل السنغال بالتطور في مجال حقوق الإنسان في السودان بما في ذلك إجراء الاستفتاء على تقرير مصير جنوب السودان، والجهود التي بذلتها الحكومة في إكمال تطبيق اتفاقية السلام الشامل والاعتراف المبكر بالدولة الوليدة. ولم يغفل مشروع القرار انشغاله بالأوضاع في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، داعياً طرفي النزاع إلى بذل أقصى جهودهما لإنهاء العنف وإيقاف المصادمات، لتثبيت احترام القانون وحقوق الإنسان والحُريات الأساسية في الولايتين. القرار الذي تبناه المجلس بشأن السودان سينقل ولاية الخبير المُستقل التنزاني محمد عثمان شاندي من ولاية رقابية إلى مهمة بناء القدرات لمدة عام قابلة للتجديد ليتمكن السودان من الوفاء بتعهداته والتزاماته في مجال حقوق الإنسان. (4) قضية التوافق بشأن السودان التي أجمع عليها جميع أعضاء المجلس بما فيهم أمريكا والكُتلة الأوروبية برئاسة بولندا فاجأت المراقبين حيث لم يعتد المجلس على صيغة التوافق وعدم اللجوء إلى التصويت خاصة عندما يتعلق الأمر بالسودان الذي كان يرزح تحت مطرقة البند الرابع منذ لجنة حقوق الإنسان التي استبدلت بالمجلس في السابع عشر من يونيو 2006م. ولم يستطع السودان الخروج من نفق البند الرابع (بند الدول سيئة السلوك) إلا بهذا القرار حيث قضى فيه حوالي عشرين عاما رافقته كوبا وإيران وكوريا الشمالية وزيمبابوي وبيلاروسيا وميانمار مؤخراً. البعض يرى أن خطوة الإجماع على مشروع القرار الأفريقي الخاص بنقل السودان من مرحلة الإدانة إلى مرحلة التأهيل والتدريب تظهر جلياً أن ثقافة التوافق بين أعضاء المجلس قائمة فعلا وفي ذلك علامة مميزة في الطريق الذي خطاه مجلس حقوق الإنسان منذ تأسيسه في يونيو 2006م. (5) فريق آخر وصف إجماع المجلس على قضية السودان بأنها حالة مزاجية استثنائية لأن المجلس لم يعترف كُلياً بتطور حالة حقوق الإنسان في السودان ولا زال منشغلا بأحداث ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق ويرى أن قضية الإجماع لم تأت في الوقت المناسب. ولكن ممثلة الاتحاد الأوروبي سفيرة بولندا التي رحبت بتجديد ولاية الخبير المستقل تحت البند العاشر أكدت على ضرورة إبقاء الخبير المستقل في هذه المرحلة لبناء القدرات والمساعدات الفنية. وترى الدبلوماسية السودانية في جنيف التي رحبت بهذا الانتقال أن التعاون الذي ظل يبديه السودان لمجلس حقوق الإنسان اصطدم على الدوام بجدار المواجهة القائمة على التنميط السلبي لحالة حقوق الإنسان في السودان مما خلق معه نوعا من الشعور العام باستهدافه دون غيره من الدول. (6) طبقاً للصحافي طه يوسف حسن المُعتمد لدى الأممالمتحدة في (جنيف) فإن جدل الانتقائية والتسييس في أروقة المجلس لا زال قائماً، فالبعض يصف المجلس بأنه أفضل من سابقته (لجنة حقوق الإنسان) في معالجة قضايا الدول، وفريق آخر يرى أن بقايا المُمارسات التي عصفت بلجنة حقوق الإنسان ما زالت سائدة مثل تفاقم ظاهرة (التسييس) وطغيان (الانتقائية) وازدواجية المعايير والكيل بمكيالين ولكن ما دام المحفل محفلاً لممثلي الدول وهو شبه حكومي فلا غرابة في وجود هذه الحسابات السياسية والتكتلات الإقليمية. البعض ذهب إلى أبعد من ذلك في وصفه لمنظمات المجتمع المدني التي عادة ما تجرؤ على انتقاد ما لا تقوى عليه الدول والحكومات، بأنها التزمت نفس الخط تقريبا حيث إن المنظمات غير الحكومية أو شبه الحكومية بدأت تمثل محاولة جديدة لاستخدام المحفل الأممي لتصفية الحسابات السياسية كما ورد في بياناتها أمام المجلس. كل هذه الأشياء ربما تضع مصداقية المجلس مستقبلاً على المحك. (7) اختيار التنزاني محمد شاندي عثمان خبيراً مستقلاً لحقوق الإنسان في السودان جاء في ختام دورة عاصفة لأعمال مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدةبجنيف في أكتوبر 2009م واعتماد الرجل جاء استكمالاً لما بدأه مجلس حقوق الإنسان في دورته السابقة في الثامن عشر من يونيو 2009م التي قرر فيها المجلس إنهاء ولاية المقرر الخاص لحقوق الإنسان في السودان الأفغانية (سيما سمر) بأغلبية صوتين واستبدالها بخبير مستقل لمراقبة حقوق الإنسان، ما أثار غضب السودان باعتبار أن المجلس لم يُراعِ ما أشار إليه من تقدم كبير في مجال حقوق الإنسان. واعتبر عبد الدائم زمراوي وكيل وزارة العدل رئيس وفد السودان الحكومي لاجتماعات مجلس حقوق الإنسان في دورته السابقة، قرار مجلس حقوق الإنسان وقتها باعتماد تعيين خبير مستقل للسودان بدلاً عن المقرر الخاص، أنه يتناقض مع ما صدر عن المجلس من تأكيدات على تطور حالة حقوق الإنسان بالسودان. معتبراً أن المجلس أكد على كل التطورات الإيجابية التي حدثت في السودان، ودعا إلى المزيد منها، ولم تتضمن قراراته أية إدانة أو إشارة إلى انتهاكات في حقوق الإنسان، وطالب ببذل المزيد من الجهود في هذا المجال. وحسب رئيس مجلس حقوق الإنسان السفير البلجيكي ألكس فان موين فإن مشاورات ومباحثات بشأن ذاك الاختيار أخذت قسطاً من الوقت وقد تم اختيار محمد عثمان شاندي من قائمة تضم أربعة مرشحين من بينهم المقرر الخاص للسودان سابقاً (كاسبار بيرو). وأشارت تقارير إلى أن المجلس استند في اختياره للتنزاني محمد شاندي عثمان على عدة مقاييس ومعايير من بينها معرفته بالقارة الأفريقية وخبرته الأكاديمية في القانون الإنساني الدولي حيث يعمل محمد شاندي أستاذاً جامعياً للقانون الإنساني الدولي.