عادة ما تنتهي الثورة الشعبية في السودان بانقلاب عسكري تحسم به الأحزاب صراعاتها على السلطة.. هي الحلقة الجهنمية (ديمقراطية انقلاب).. لكن هذه المرة الوضع مختلف في وجود الحركات المسلحة.. ويتطلب تقديم التنازلات من الجميع على وجه الخصوص من الحكومة (صاحبة السلطة).. وكل القوى السياسية والجلوس في (الواطة)، بمن فيهم الحركات المسلحة، والتوصل لصيغة حكم مُثلى للسودان ب (المباصرة). كانت النية مبيتة على أن يفجر موكب تشييع الشهيد القرشي.. الثورة في أكتوبر 1964، وكان للمقاومة التي قادها السيد الصديق المهدي قبل وفاته ثم الدور الذي لعبه الحزب الشيوعي في تعبئة الجماهير ثم الإخوان المسلمون.. كل هذه العوامل ساعدت في تفجير وإنجاح ثورة أكتوبر.. ولكن بفهم الشيوعيين أن الثورة هي التغيير الاجتماعي كهدف من الاستيلاء على السلطة، كان الحزب الشيوعي يدرك بفعله في وسط الجماهير وبنكهة الستينيات ذات الطابع الاشتراكي.. أن في الإمكان تجاوز الأحزاب التقليدية، فاقترح على جماعة الإخوان المسلمين أن ينفرد الحزبان بقيادة الثورة.. يذكر الأستاذ أحمد محمد شاموق هذه الواقعة في كتابه الموسوم الثورة الظافرة.. يقول (كانت الحاسة الحزبية عند الشيوعيين أقوى من غيرهم فأرسلوا رسولهم بطريقة شخصية إلى الأستاذ عثمان خالد مضوي وكان في المستشفى بعد أحداث الجامعة وشرح له اقتراحهم حول الوضع الراهن.. واقتراحهم يقضي بأن لا يشركوا الأحزاب التقليدية بقياداتها السابقة في أي عمل شعبي منظم وأن لا يتصلوا بها ذلك لأن الأحداث المتفجرة أقوى من الأحزاب التقليدية وإذا تطورت الأحداث فستتطور دون أن يكون للأحزاب التقليدية يد في تطورها إنما هناك قوى جديدة هي صاحبة المصلحة في تفجير هذا الوضع.. هذه القوى الجديدة هي الشيوعيون والإخوان المسلمون وهم القادرون وحدهم على قيادة المقاومة فلم لا يكون العمل تحت قيادة القوى الجديدة فقط). رفض الإخوان المسلمون ورفض الدكتور حسن الترابي.. الذي بدأ نجمه في الصعود في معمعات ثورة أكتوبر.. رفضوا عرض الحزب الشيوعي.. كان الزمان هو زمان الاشتراكية وكان إبعاد القوى التقليدية يعني انفراد الحزب الشيوعي بالإخوان المسلمين.. أي أن الحزب الشيوعي الفاعل وسط الجماهير هو الذي سيقود الثورة.. لا جماعة الإخوان المسلمين الذين كانت ثورة أكتوبر بالنسبة لهم هي فقط البداية وصولاً إلى السلطة في يونيو 1989. لذلك جاء رفض الإخوان المسلمين لمقترح الحزب الشيوعي.. وكان الإخوان في حاجة لحلفائهم في الأحزاب التقليدية ليتجاوزوا من بعد ذلك كل الأحزاب بما فيهم الحزب الشيوعي ذاته.. ونعثر على ذلك موثقاً في كتاب د. الترابي (الحركة الإسلامية في السودان.. التطور والمنهج والكسب). فماذا كان موقف الإخوان المسلمين من مبعوث الحزب الشيوعي إليهم؟.. يقول الأستاذ شاموق (نقل الأستاذ عثمان خالد هذا الموضوع مقترح مبعوث الشيوعيين للإخوان أو بالأصح للإخوان الأربعة الذين كانوا يتحركون في تلك الليلة.. وهم الدكتور حسن الترابي، محمد صالح عمر، عبدالرحيم حمدي، وأحمد التجاني صالح).. وكانت النتيجة أن رفض الأربعة مقترح الحزب الشيوعي وقرروا أن يدعوا القوى الوطنية كلها للمشاركة في الثورة.. وفي مقدمتهم الصادق المهدي.. رفض الإخوان المسلمين لمقترح الحزب الشيوعي نجد إرهاصاته في ساحات جامعة الخرطوم.. وخلاف اتحاد طلاب الجامعة حول كيفية إدارة المعركة مع نظام عبود أي خلاف الإخوان المسلمين والجبهة الديمقراطية الممثلة للحزب الشيوعي بسنده في القوى الحديثة.. إذ كان موقف الجبهة الديمقراطية من معركة الندوات في مواجهة نظام عبود هو التظاهرات وفق ما جاء في كتاب الأستاذ شاموق (إن أهمية المظاهرة تفوق أهمية الندوة لأن المظاهرة تربط الطلاب بجماهير الشارع بينما الندوة عمل داخلي معزول). الجبهة الديمقراطية بسندها من القوى الحديثة كانت أداة الحزب الشيوعي في ثورة أكتوبر.. لذلك رأت الجبهة الديمقراطية في جامعة الخرطوم أن الندوات عمل معزول.. أرادتها تظاهرات في شارع كان الحزب الشيوعي فاعلاً في وسطه.. أي أراد الحزب الشيوعي قيادة الثورة.. ولا شك في أن الأربعة المذكورين من الإخوان المسلمين كانوا يدركون غرض الحزب الشيوعي لذلك اتجهوا إلى حلفائهم في الأحزاب التقليدية وبالفعل استبانت الأمور بعد نجاح الثورة وبرزت التحالفات التي حددت مصير ثورة أكتوبر: الإخوان المسلمون والأحزاب التقليدية في ناحية.. والحزب الشيوعي وجبهة الهيئات في ناحية أخرى. فإلى ماذا انتهى (تخندق التحالفات).. البروفيسور محمد عمر بشير يرصد وقائع المعركة على سلطة ما بعد ثورة أكتوبر بين قوى اليمين واليسار.. وذلك في كتابه الموسوم تاريخ الحركة الوطنية في السودان.. يقول (ضمت الحكومة الأولى لأكتوبر ممثلاً لكل من حزب الأمة، الوطني الاتحادي، الشعب الديمقراطي، جبهة الميثاق الإسلامي والحزب الشيوعي، كما ضمت سبعة وزراء لتمثيل النقابات والمنظمات المهنية وكان من بين السبعة وزراء.. السكرتير العام للاتحاد العام لنقابات عمال السودان ورئيس اتحاد المزارعين). تمثيل الحزب الشيوعي وحلفائه من القوى الحديثة كانت له الغلبة في حكومة أكتوبر مما أثار حفيظة وتخوف الأحزاب التقليدية والإخوان المسلمين.. والآن استبانت حقيقة مسعى مبعوث الحزب الشيوعي إلى الإخوان المسلمين كما جاء عند شاموق أي الإحاطة بسلطة أكتوبر بعزل الأحزاب التقليدية والاستعانة بالإخوان كمرحلة في معمعات ثورة أكتوبر.. إذ كانوا فاعلين في أثناء الثورة ويُصعب تجاوزهم.. خصوصاً على مستوى اتحاد طلاب جامعة الخرطوم. يواصل بروفيسور بشير سرد وقائع معركة سلطة أكتوبر بين اليمين واليسار (كانت الأحزاب التقليدية معارضة بشدة للتمثيل المبالغ فيه للشيوعيين وكنتيجة لذلك اتخذت هذه الأحزاب موقفاً معادياً لمجلس الوزراء وأعلنت أن البلاد في حاجة لإجراء انتخابات تنتهي بتكوين برلمان جديد يضع دستوراً جديداً لحكمها).. وانقسم مجلس الوزراء منذ البداية إلى قسمين: القسم الأول تكون من الأحزاب التقليدية بما في ذلك الأخوان المسلمون.. ويتكون القسم الثاني من الشيوعيين وحلفائهم من جبهة الهيئات. في 18 ديسمبر 1965 قدم رئيس مجلس الوزراء سر الختم الخليفة استقالته بعد أن وجد نفسه عاجزاً عن إيجاد الحلول للمسائل المتنازع عليها. يقول بروفيسور بشير (ومن ثم شُكلت حكومة جديدة في 24 فبراير 1965 وكان نصيب كل من حزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي وحزب الشعب الديمقراطي وكتلة الجنوبيين ثلاثة وزراء.. ولم يُمثل الشيوعيون والإخوان المسلمون إلا بوزير لكل منهما.. ومن ثم ارتفع لواء ونفوذ الأحزاب التقليدية من جديد.. وأول عمل قام به مجلس الوزراء الجديد هو الموافقة على إجراء انتخابات عامة في يونيو 1965).. في الستينيات كان المد الاشتراكي في الذروة.. وفي الثمانينيات كان المد الإسلامي في الذروة.. وبين الذروتين (ثورتي أكتوبر وأبريل) نستبين صعود (القوى الجديدة).. حسب تعبير مبعوث الحزب الشيوعي سالف الذكر.. وقصد بها الحزب الشيوعي والإخوان المسلمين.. ومن وراء الثورتين قصد الحزبان تجاوز القوى التقليدية وتجاوز أحدهما الآخر فانتهى الحزب الشيوعي إلى تأييد انقلاب مايو في العام 1969.. وانتهت الجبهة الإسلامية.. المسمى الجديد للإخوان المسلمون.. إلى القيام بانقلابها في العام 1989. وفي الستينيات اضطرت حتى القوى التقليدية لتبني شعارات ثورة أكتوبر.. اليسارية، وفي الثمانينيات والتسعينيات اضطر الحزب الشيوعي ذاته إلى مجاراة المد الإسلامي في أطروحات بعض منظريه وفي توجهه العام.. والمفارقة هي أن لا الحزب الشيوعي حافظ على ديمقراطية كان نجمه فيها لامعاً في وسط السماء بعد ثورة أكتوبر.. ولا الجبهة الإسلامية حافظت على ديمقراطية كان نجمها فيها لامعاً في وسط السماء بعد ثورة أبريل.. استعجل الحزبان الوصول للسلطة بالانقلاب.. في حالة الحزب الشيوعي أيد الشيوعيون انقلاب مايو ثم قاموا بانقلابهم (التصحيحي) في يوليو 1971. وعن الحزب الشيوعي (وفورة الاشتراكية الأكتوبرية) التي طالت حتى الأحزاب التقليدية.. يقول د. منصور خالد في كتابه الموسوم (النخبة السودانية وإدمان الفشل).. الجزء الأول (من بين الأفكار التي ترددت في أكتوبر كجزء من مسعاها لإعادة بناء المجتمع تلك التي تنادي بإعادة مراجعة علاقات الإنتاج والإصلاح الزراعي والتنمية العادلة وكل هذه تعبيرات فضفاضة تفتح الباب واسعاً للمزايدة وهكذا كان هو الحال، فعلى سبيل المثال لا أعرف حزباً واحداً بعد انتفاضة أكتوبر لم يجعل له في برامجه شيئاً من الاشتراكية، خاصة وقد جاءت الدعوة الأكتوبرية لإعادة النظر في بناء الاقتصاد السوداني من الأحزاب اليسارية). ويمكننا عقد مقاربة بين الأوضاع السياسية الآن وحال الحكومة والمعارضة قبل ثورة أكتوبر.. فيثبت أمام ناظرينا مشهد يصور موقف الصادق المهدي.. موقف يشابه موقف أبيه الصديق عبدالرحمن المهدي.. فالأخير دخل في تفاوض مع حكومة عبود خرج بعده ليؤكد فشل التفاوض كذلك فعل ابنه الصادق المهدي مع حكومة الإنقاذ.. يورد الأستاذ شاموق في كتابه المذكرة التي رفعتها المعارضة لنظام عبود ممثلة في الجبهة الوطنية.. ونجد فيها ذات أجندة الصادق المهدي الوطنية التي تقدم بها لحكومة الإنقاذ.. عن الصديق المهدي يقول شاموق (بدأت أعمال الجبهة الوطنية لمقاومة نظام عبود.. وقد اشترك في هذه الجبهة بصورة رئيسة: حزب الأمة، الحزب الوطني الاتحادي، الإخوان المسلمون، الحزب الشيوعي، وبعض الشخصيات الوطنية.. وشدَّ من أزر هذه الجبهة جماهير العمال والطلاب وخاصة اتحاد طلاب جامعة الخرطوم) رفعت الجبهة الوطنية بزعامة السيد الصديق مذكرة ومطالبها هي ذات أجندة الصادق المهدي الوطنية الآن.. ثم مذكرة تالية لها لينتهي الصديق المهدي في الستينيات إلى ذات ما انتهى إليه ابنه الصادق المهدي في الألفية الثالثة العام 2011.. أي الدخول في تفاوض مع الحكومة انتهى ببيان يوضح فشل وختام التفاوض في الحالتين.. عن السيد الصديق والمذكرة الأولى المرفوعة لحكومة عبود يقول شاموق (رفعت الجبهة الوطنية مذكرة تطالب فيها بعودة الجيش إلى الثكنات وأن تتولى الحكم هيئة انتقالية لتحقيق الآتي: تمارس سلطة الحكومة في فترة الانتقال.. تضع التخطيط السليم وأسس الديمقراطية الواضحة في السودان على ضوء تجارب الماضي.. وتضع قانون انتخابات عادل وتُجرى الانتخابات لانتخاب ممثلي الشعب الذين سيتولون الحكم في صورته النهائية ولوضع الدستور الدائم). لم تستجب حكومة عبود فرفعت الجبهة القومية مذكرة أخرى جاء فيها (إن من واجبنا أن ننبهكم إلى أن الحكم أياً كان نظامه لا يصلح ما لم يستقيم ميزانه وما لم يساو بين المواطنين.. وإن الأهواء والأحقاد لا تعود بغير الهاوية والانحدار ولذا فإننا نكرر احتجاجنا البالغ على هذه التصرفات ونحملكم نتائجها وعواقبها منتظرين لفترة مناسبة لنرى ما أنتم فاعلون حتى نحدد مواقفنا من هذا التجاهل والإغضاء). ومثلما ما حدث لابنه الصادق المهدي مع حكومة الإنقاذ التقت حكومة عبود بالصديق المهدي في مفاوضات منفردة حول مستقبل الحكم في السودان.. وبعدها سلم الصديق المهدي مذكرة للحكومة مثلما فعل ابنه في ما بعد لينتهي الاثنان بفشل وختام التفاوض مع الحكومة.. يقول شاموق (سلم الصديق المهدي مذكرة لرجال الحكومة احتوت رده على بعض النقاط وكانت هذه المذكرة إيذاناً بختام المفاوضات وفشلها). والفارق بين ما قبل ثورة أكتوبر والحاضر الراهن هو أن الجبهة القومية لمكافحة نظام عبود كانت جبهة معارضة منظمة تدعمها الجماهير.. والملاحظ أن معارضة نظام الإنقاذ كانت لفترة طويلة تفعل من الخارج.. فحتى وفاة الصديق المهدي رغم تأثيرها على قوة المعارضة وفعاليتها إلا أن النيران كانت خامدة تحت الرماد هبت عليها رياح أكتوبر فاشتعلت من جديد. وأيضاً الوضع الراهن يتطلب (المباصرة) من الحكومة والمعارضة ليكون التغيير بالتوافق.. ذلك في وجود الحركات المسلحة.. وأيضاً الثورة فعل عاطفي قد يحدث بسبب حادث عفوي وفقاً لتوافر شروطها.. حان الوقت ليجلس الجميع.. الحكومة والمعارضة والحركات المسلحة لينظروا في كيف يُحكم السودان؟