{ طاقة الحزن تصعد بمقدار الفقد ولكنه حزن يتوضأ ويسلّم بقضاء الله وقدره ومشيئته، حزن لو تركناه يحزن لما انقطع وصله أو خفت نحيبه أو جفت مآقيه وإن أهدرت كل دمعها ودمها في مقام سيدة سودانية خطفها الموت خلسة وقد كان زوجها مرآة تصدرت كل محاسنها وعلو شأنها وتميزها وتدينها وعلمها ونقاء سيرتها وإن فاجأته بعد وفاتها بعظيم أعمال لم يكن يعلم عنها شيئا وقد كانت (ست البنات) تكفل أيتاما وتقدم القليل مما تملك لمساكين في منطقتها والحي الذي تسكنه بالخرطوم، حتى لا يفسد عليها الجهر أجرها. { لم يكن زوجها (عبد القادر محمد علي) حاضرا عندما دنت لحظة الوفاة المفاجئة وقد حملته ظروف عمله ليكون خارج السودان في (بانجول) بدولة غامبيا يحاضر مجموعة من الدارسين من تلك الدولة الأفريقية البعيدة وهي تستعد لاستقبال طفلها الرابع ولكن مشيئة الله تصعد بروحها الطاهرة إثر إصابتها بالملاريا وهبوط حاد في دورتها الدموية لترحل إلى بارئها ويستعصي على الجميع إبلاغ (عبد القادر) وهم يدركون معزته لها ومحبته لها وتوأم الروح الذي جمع بينهما وما يزيد الأمر تعقيدا أن (عبد القادر) بعيدا عن وطنه وعشيرته وأهل بيته وهذا وحده ما يخفف وطأة تلك اللحظة القاسية وأخيرا يتلقى الخبر ويهبط عليه حزن لا يحتمله وقد عجز الذين تجمعوا فور سماعهم الخبر أن يحتملوه فبكوا كما لم يبكوا من قبل وهم يتحلقون في وداعها وتتصاعد أصواتهم بالتهليل والتكبير والبكاء والدموع والصراخ وصغارها وسط المشيعين يبحثون عن أمهم وعن أبيهم وصوت بكائهم تنفطر له القلوب وتدمى له العيون والاستغفار يتردد صداه من داخل الصدور التي اجتمعت تودع (ست البنات) إلى مثواها الأخير. { في المطار احتشد رفاق الزوج المكلوم وتنادى أهله ومعارفه من كل فج عميق، حتى الذين انقطع الوصل بهم وسط تصاريف الحياة كانوا يتقدمون الصفوف. هبط عبد القادر إلى أرض الوطن كأنه يهبط إليه لأول مرة وقد سبقت دموعه خطواته تبلل أرض المطار وينخرط الجميع في موجة بكاء تكسر المراسم والإجراءات داخل هذه الأماكن الرسمية ولبكاء عبد القادر وقع خاص على جميع المتزوجين وهم يفاجأون بوفاء افتقدوه ورباط لم يألفوه، وعلا في تلك اللحظة الصادقة شأنه وشأنها وتسلل سؤال بريء إلى قلب كل محتشد ومتزوج في تلك اللحظة (ما حقيقة هذه المرأة التي يبكيها زوجها بكل هذا الصدق والحب والوفاء؟). { رحلت (ست البنات العطايا أحمد البشير) عن زوجها بعد ستة عشر عاما من المودة والدعوة إلى الله والسهل الممتنع من العلائق الزوجية الفريدة وقد سبق أن التقيا في حقل الدعوة وتلاقت أشواقهما من بين ثنايا العمل الدعوي الشاق وتوحدت اهتماماتهما واتصل عطاؤهما وهما يرفدان الحركة الإسلامية في منطقة (الطقيع) ريفي المناقل بحراك مميز وأفكار كبيرة وهما في المرحلة الثانوية. { أكملت (ست البنات) دراستها الجامعية في كلية الدعوة والإعلام بجامعة القرآن الكريم ثم أردفتها بدبلوم عال في الدعوة والثقافة الإسلامية ومن بعد ذلك دخلت في الدراسة لنيل درجة الماجستير وبجانب ذلك تنشط في الدعوة الإسلامية من خلال منظمة (ويلكم تو إسلام) التي تعمل في نشر الدعوة في أفريقيا وأوروبا وأمريكا وتتخذ من التواصل عبر النشر الإلكتروني وعبر وسائل أخرى معبرا لمخاطبة أقوام في أنحاء متفرقة من الكرة الأرضية بخطاب الإسلام. { تعرفت عليها من خلال هذه الزاوية (رواية أخرى) وربما يتذكرها الكثير من القراء حين كتبت مقالة مميزة وهي تعقّب على زاوية كتبتها عن تسرب إسرائيل إلى داخل بلادنا تحت عنوان (إسرائيل على الأبواب) وحمل تعقيبها العنوان (إسرائيل داخل الدار وليست على الباب) وقد شهدت الأيام من بعد ذلك بصحة قراءتها وقد كانت مقالتها سابقة لتلك الندوة التي تحدث فيها وزير الأمن الداخلي وكشف فيها عن وجود إسرائيل داخل السودان وفي دارفور والشرق والجنوب والخرطوم. { الزوج المكلوم يكتب في مقالة يوثق فيها لفقده الجلل ولحزنه الكبير عليها ولحياتها معه وهي بالتأكيد حياة الفرح كله ويعنون لمقالته بكرامة هذا الزواج الميمون حين يربط بين يوم زواجه الذي صادف تحرير (وينجبول) من المتمردين في جنوب السودان والرجل له سيرته مع الجهاد ويوم وفاتها كان هو في العاصمة الغامبية (بانجول) والأحرف ذاتها التي احتشدت يوم زفافهما تحتشد يوم رحيلها وإن تباينت الأمكنة ليجيء عنوان المقالة الحزينة (ما بين وينجبول وبانجول حالة من الفرح والحزن). { اللهم ارحم ست البنات وارفع درجاتها وتقبلها وأكرم نزلها وبارك في أبنائها (إيلاف وإيثار ومحمد علي) وزوجها وإنا لله وإنا إليه راجعون.