كادت مدينة (تلودي) أن تخرج من يد الحكومة ووالي الولاية أحمد هارون بعد (3) ضربات متوالية... لكن المدينة التي وصلناها صباح (الأحد) الماضي صمدت رغم المواجع والآلام وزخات رصاص منسوبي الجيش الشعبي الذي انهمر كالمطر. بالنسبة للمتمردين فإنّ المدينة تعد منطقة استراتيجية تسعى جاهدةً للظفر بها من أيدي القوات المسلحة والتمركز حولها تمهيداً للانطلاق للمناطق الأخرى. الحركة الشعبية بثت الشائعات وفقاً لتعبير الأهالي بأن جيشها الشعبي قادم لا محالة ولا بد من مغادرتها، وبالفعل غادرت بعض الأسر، وأوشكت المدينة أن تخلو من السكان، لكن والي الولاية أحمد هارون انتبه للخطوة حسبما أبلغنا ونقل حكومته إلى المدينة لبث الطمأنينة في نفوس الأهالي، وتكريماً لهم لصمودهم في الحرب التي دارت رحاها بالمنطقة.. الوالي لم يكتف بنقل الحكومة فقط بل دعا أيضاً وزير الطرق والجسور عبدالوهاب عثمان وممثلي الشركات لمواصلة العمل في الطرق.. المدينة التي وصلناها صباحاً بدت هادئة وآمنة، ومعنويات سكانها عالية تعانق عنان السماء. علمنا من المواطنين أن النساء حملن الغذاء وتوجهن إلى الخطوط الأمامية مع الجنود تشجيعاً لهم على مواصلة ملاحقة منسوبي الجيش الشعبي وصدهم عن المدينة بصورة نهائية. (1) جنوب شرق كادقلي على مسافة (84) كيلو متراً تقريباً تقع (تلودي).. مدينة هادئة تمثل نموذجاً للتعايش والتداخل بين قبائل السودان المختلفة،.. سُكانها خليط متجانس من القبائل السودانية امتزجت دماؤهم وتلاقحت ثقافاتهم وتشابهت سحناتهم، فلا تكاد تفرق بين العربي والنوباوي والجلابي والفلّاتي، لا حدود بينهم حتى في التزاوج والتصاهر. (تلودي) من مدن جنوب كردفان ذات الأهمية التاريخية والاقتصادية والاستراتيجية، فتاريخياً كانت بها رئاسة مديرية جبال النوبة في الفترة من 1909 - 1929م، وكانت بها (أورطة) شاركت في ثورة اللواء الأبيض 1924م واستشهد أحد أبنائها في هذه الحركة المسلحة هو عبد الفضيل الماظ، ومنها انطلقت ثورة (كوبانقو) بالليري، وثار أهلها بقيادة أولاد (دامرة) على المأمور التركي الفاسد أخلاقياً (أبو رفاس) وقتلوه، مما عرّض المدينة لحملات انتقامية من قبل الحكم الاستعماري.. وكانت تعقد بتلودي جمعيات سباق الخيل والفروسية تحضرها قيادة الدولة من الخرطوم وبعض السفراء الأجانب... من الناحية الاقتصادية كانت (تلودي) مركزاً تجارياً مهماً يعمره كبار التجار الوطنيين المعروفين بالجلابة، وبها عدد من التجار الإغريق والسوريين والشوام والأقباط، واشتهرت ببعض الصناعات مثل المياه الغازية وحلج الأقطان، حيث تعتبر (تلودي) من أهم مراكز إنتاج القطن قصير التيلة، وتنتشر بها مشروعات التحديث الزراعي، حيث عرف الناس الزراعة المطرية الآلية، وتوجد بها الآن مشروعات البيضاء للزراعة الآلية المطرية، وهي المصدر الأساسي لإمداد بعض الولاياتالجنوبية أعالي النيل والوحدة بحاجتها من الغلال والبضائع الأخرى، و(تلودي) بذلك من المدن الاستراتيجية لدولة الجنوب، حيث تعتبر المنفذ التجاري المهم والمورد الأساسي للحبوب لمناطق (تونجا وبانتيو)، وعلى الحدود بينها وبين ولاية الوحدة توجد منطقة بئر (بلايل) وهي من أخصب الأراضي الزراعية غير المستغلة، ويمكن أن تقوم في (تلودي) منطقة تجارة حرة تمثل أكبر سوق للتبادل التجاري بين الشمال والجنوب، حيث يمكن إقامة محطة جمركية في (كرندي). (2) تعرضت (تلودي) منذ أن بدأ نائب رئيس الحركة الشعبية بالشمال عبدالعزيز الحلو تمرده على الدولة لثلاث هجمات بهدف السيطرة عليها، كانت الأولى في يوم 6/6/2011م.. في الثامن عشر من نوفمبر الجاري أعلن والي جنوب كردفان أحمد هارون أن حكومته ستنتقل بكاملها إلى مدينة (تلودي)، التي ستكون عاصمة للولاية لفترة مؤقتة، وذلك دعماً لمواطني المحلية الذين صمدوا في وجه الاعتداءات التي استهدفت بها الحركة الشعبية الأمن والاستقرار. وقال هارون إن انتقال الحكومة إلى (تلودي) ستكون له انعكاسات خدمية كبيرة على المواطنين، وشكل الخدمات المختلفة في مجالات الصحة، التعليم، المياه والثروة الحيوانية وغيرها، حيث سيتم وضع حلول عاجلة وجذرية لكل المشكلات التي تواجه المنطقة، ونوّه إلى أن خطوة نقل العاصمة لتلودي يأتي أيضاً سنداً للقوات المسلحة والقوات الأخرى التي ألحقت هزائم نكراء بقوات الحركة الشعبية قطاع الشمال بقيادة عبدالعزيز الحلو، لافتاً إلى أن الحركة الشعبية بعد الهزائم المتكررة بالمنطقة لجأت إلى أسلوب الحرب النفسية كما فعلت سابقاً في مدينة كادوقلي، حيث بدأ أفراد من الحركة الاتصال بمواطنين داخل المدينة لبث الشائعات بأن الحركة تعد لهجوم على (تلودي) بقوات كبيرة وأن عليهم الخروج منها. وأكد هارون سيطرة القوات المسلحة الكاملة على تلودي ومحيطها قائلاً إنها مؤمنة بشكل كامل ولا مجال للنيل منها.. وللمرة الثانية على التوالي وفي الفترة مابين أواخر أكتوبر الماضي والعاشر من نوفمبر الجاري تتعرض محلية تلودي بجنوب كردفان لهجوم كثيف من قبل الجيش الشعبي، وفي التفاصيل أن الحركة ألقت بثقلها في الهجوم على المحلية في الخامسة من فجر آخر أيام أكتوبر من خمسة محاور، بواسطة خمس كتائب، ويتراوح تعداد الواحدة منها ما بين (300 - 400) جندي، واعتمد تسليحهم على الرشاشات والآربجي والهاون، أما المحصلة فكانت (175) قتيلاً للحركة في محور واحد وغنيمة مجموعة كبيرة من الأسلحة ومركبتين (يرول وتاتشر) بحسب مصدر استخباري، خطورة الهجوم دفعت القوات المسلحة لعقد مؤتمر صحفي خاص لتوضيح الحقائق التي تفيد بتمكنهم من دحر فلول كتائب الحركة ضمن نطاق عمليات سُمِّيت بالصيفية. ومن جانبه وصف والي جنوب كردفان أحمد هارون عبر وسائط (الفيديو كونفرنس) محاولات الحركة باليائسة. (3) اللافت للأنظار المعنويات العالية للقوات المسلحة والأجهزة النظامية الأخرى، وتفاعل سكان المدينة مع العرض العسكري الضخم الذي انتظم المدينة وسط زغاريد النساء وتكبيرات الرجال. تاريخياً كانت (تلودي) عاصمة كردفان الكبرى وكانت تسمى مديرية جبال النوبة أيام الحكم الثنائي قبل نقلها لمدينة الأبيض في الفترة (1904 1905م) جراء ثورة الأهالي وقتلهم لحاكم تلودي المستر جيمس عام 1904م، وتعتبر (تلودي) منطقة نصرة، فالإمام المهدي شد رحاله لجنوب كردفان واستقر في (قدير) التي تبعد حوالي ساعة ونصف الساعة من (تلودي)، حيث دارت معركتان بين جيش المهدي والقوات التركية، الأولى حملة يوسف الشلالي باشا في موقع باسم (الجرادة)، والثانية حملة أيمن بك باشا التي انطلقت من فشودة وانتصر فيهما المهدي.. جغرافياً صارت (تلودي) بعد انفصال الجنوب مدينة حدودية تبعد حوالى ساعة ونصف الساعة بالسيارة عن فاريانق (75 - 80 ) كيلومتراً وساعتين من بانتيو ببعد نيف وتسعين كيلو تقريباً بولاية الوحدة، كما يفصلها عن ملكال (120) كيلو.. والي الولاية أحمد هارون أعلن أن الرئيس البشير سيؤدي صلاة (الشُكر) قريباً في (كاودا)، وكشف في ذات الوقت عن تقدم القوات المسلحة والأجهزة الأمنية الأخرى في كافة الجبهات وإلحاقها للهزائم المُتتالية في صفوف التمرد. وأفلح الوالي في إعادة المواطنين إلى تلودي بعد أن غادرتها مجموعات من الأُسر نتيجة للشائعات التي بثتها الحركة الشعبية، وشهدت المدينة عرضاً عسكرياً قوامه عشرات السيارات العسكرية المُدرعة وحاملات الجنود وسط حشود كبيرة من المواطنين ومنسوبي القوات النظامية تخللتها هتافات وشعارات مؤيدة للوالي ومُنددة بالتمرد والمتمردين، ودعا الوالي إلى ضرورة عودة كل مناطق الجبال آمنة ومستقرة، ونوّه إلى أن القوات المسلحة والأجهزة الأمنية الأخرى كبدّت المتمردين خسائر فادحة وقتلتهم ك(الجراد) واستولت على آلياتهم ودباباتهم، مبيناً أن القوات المتمردة هاجمت تلودي ثلاث مرات لكنها غادرتها بعد اكتشفافها أن لحوم أهلها (مُرة)، موضحاً أن القوات المتمردة كتبت نهايتها بيدها، وأن الحكومة جاهزة ومستعجلة لدحر التمرد وتنظيف الولاية من المتمردين، وقطع بأن معركة التحرير والتعمير ستنطلق من مدينة (تلودي). (4) وزير الطرق والجسور المهندس عبدالوهاب عثمان قال إن صمود أهل (تلودي) جعل عشم المتمردين في جنوب كردفان ك(عشم إبليس في الجنة)، لافتاً إلى أن التنمية لن تتأتى إلا بعد استتباب الأمن ودحر التمرد وحفظ الأمن، وكشف عن استئناف العمل في طريق (تلودي، الليري، كلوقي، أبو جبيهة، رشاد، العباسية، وأم روابة) نهاية الشهر الجاري، وأكد أن وزارة المالية التزمت بتوفير التمويل اللازم كاملاً، سيما وأن المحلية مشهود لها بالإنتاج وأن الحكومة ستعيد إليها سيرتها الأولى في إنتاج القطن والمحاصيل الأخرى، مبيناً أن قيادات الدولة وعلى رأسها شخصه مستعدون لحمل السلاح وتأمين البلاد وقطع خطوط التمرد لإعلان موته.. اقتصادياً توجد في منطقة البيضة من أعمال المحلية مشاريع زراعية كبيرة تتمثل محاصيلها في الذرة والسمسم والفول السوداني، كما أن أكبر تعداد للماشية في الولاية يوجد في (تلودي)، هذه الأهمية المتعاظمة للمحلية هي التي تفسر حرص الحركة على الاستحواذ عليها بمهاجمتها ثلاث مرات بقوات عسكرية ضخمة وبعتاد حربي ثقيل كان قوامه في المعركة الأخيرة الدبابات المدرعة وصواريخ (الكاتيوشا)، فضلاً عن الأسلحة الثنائية، بدوره حرص الوالي على زيارتها في الهجومين الأخيرين كما اختارها لتأدية صلاة عيد الأضحى المبارك، ومن جهته عزَّز الجيش من وجوده بآليات عسكرية ثقيلة ودفعة كبيرة من القوات وصلت من الخرطوم.