شهر ديسمبر 1955م هو الشهر الذي جرت فيه كل ومعظم المداولات التي توجت في النهاية بإعلان الاستقلال من داخل البرلمان، وكان نجم نجوم تلك المداولات هو الأستاذ المحامي مبارك بابكر زروق زعيم الجمعية التأسيسية، التي كان الحزب الغالب فيها هو الحزب الوطني الاتحادي الذي هو مجموعة من الأحزاب الاتحادية التي اندمجت في مصر بعد ثورة يوليو 1952م وحملت هذا الاسم الذي أصبح يقوده الزعيم إسماعيل الأزهري. وكان أهم وأقوى الأحزاب الاتحادية هو حزب الأشقاء الذي كان رئيسه الزعيم الأزهري. وقد اكتسح الحزب الوطني الاتحادي الانتخابات العامة التي أجريت في نوفمبر 1953م وشكل الحكومة مؤتلفاً مع بعض الجنوبيين وخسر حزب الأمة تلك الانتخابات بفارق كبير جداً في عدد المقاعد بينه وبين الحزب الوطني الاتحادي فذهب إلى المعارضة التي أصبح زعيمها هو الأستاذ محمد أحمد محجوب، الذي انضم إلى حزب الأمة بعد تلك الانتخابات. وكان الاثنان زعيم المجلس وزعيم المعارضة فازا في دوائر الخريجين. وفي ما بعد في انتخابات 1965م التي اقتصرت على الشمال لظروف الحرب في الجنوب فاز عدد من الشيوعيين في دوائر الخريجين وفاز فيها أيضاً زعيم جبهة الميثاق الإسلامي الدكتور حس عبد الله الترابي ثم ألغيت دوائر الخريجين في انتخابات 1968م التى اكتسحها أيضاً الاتحاديون تحت اسم الاتحادي الديمقراطي. وكانت المفاجأة الكبرى بعد انتخابات الحكم الذاتي التي أجريت في نوفمبر 1953م واكتسحها الحزب الوطني الاتحادي هي إعلان الاستقلال من داخل البرلمان في ديسمبر 1955م فقد نشأ هذا الحزب أو مجموعة الأحزاب الاتحادية التي شكلته وأهم شعاراته هو تحقيق الوحدة أو الاتحاد مع مصر ثم لما فاز تخلى عن هذا الشعار وأعلن الاستقلال الذي كان المصريون يعتبرونه انفصالاً.. ولقد طرح السؤال كثيراً هل كانوا اتحاديين فعلا طامحين إلى تحقيق وحدة السودان ومصر أم أنهم منذ البداية كانوا استقلاليين كانوا يرون أن رفع شعار الوحدة لا بد منه لكي يتحقق الاستقلال؟ أي أنهم خدعوا المصريين وضحكوا عليهم. وفي ما بعد تكرر المشهد وأعاد التاريخ نفسه مع بعض الفوارق فقد كانت وحدة السودان من ثوابت الحركة الشعبية الجنوبية منذ أن تأسست عام 1983م وكانت حركة مسلحة أو أنه كان لها ذراع عسكري هو الجيش الشعبي، وكانت الحركة الشعبية تريد أو تزعم أنها تستهدف إقامة سودان جديد واحد موحد يرد فيه اعتبار المهمشين الذين هم الأعراق الأخرى غير العربية لكنها بعد أن فازت في انتخابات الجنوب وأصبح في مقدورها أن تثبت وحدة السودان وتؤكد أنها ما زالت من ثوابتها زاغت وأعلنت استقلال الجنوب الذي هو بالنسبة لنا في الشمال انفصال. وعندما أعلنا استقلال السودان في ديسمبر 19م وفي ما بعد وحتى الآن فإننا عبرنا مئات المرات عن شعورنا بالعرفان نحو مصر على الكثير الذى قدمته لنا أما الجنوبيون فقد زعموا بعد استقلالهم اننا هنا في الشمال لم نقدم لهم أي شيء ولم يكن ذلك صحيحاً.