{ لم يكن (سد مروي) مجرد مشروع قومي تاريخي ذي أبعاد اقتصادية وسياسية واجتماعية فحسب، ولكن كان رمزاً للإرادة والتطور سرعان ما ترك آثاره الطيبة داخل نفوسنا وبات مدعاةً للفخر والسعادة وملتقى لأحلامنا العريضة بغدٍ أفضل. وبينما كان إنتاجنا الكلي من الطاقة الكهربائية لا يتجاوز استهلاكنا المحلي بشق الأنفس، أصبحنا بفضل (السد) نتمتع بتيار كهربائي مستقر لا مقارنة بينه وبين ما كنا عليه طويلاً، بل ونفكر في تصدير الكهرباء كسلعة عالمية قادرة على إخراجنا من عنق زجاجة العوز ورفع معدلات الدخل المحلي. كل هذا وغيره من محاسن (سد مروي) التى لا تخفى على أحد ترزح الآن تحت وطأة الخلاف والتعصب والاعتصام، الشيء الذى جعلني بفهمي المتواضع أتساءل: ماذا يريد أهلنا المناصير تحديداً؟.. وما هو الهدف القومي النبيل من وراء أجندتهم الواضحة والخفية؟.. ولم يكن أمامى سوى الاستجابة للبادرة الطيبة من الأخ (الحضري) وزير الدولة- المدير العام لوحدة تنفيذ السدود، وهو يدعو العديد من الأقلام الصحفية لتوضيح الأمور، مراهناً بذلك على الإعلام كوسيلة قادرة على توفيق الأوضاع وتمليك الرأي العام الحقائق بالقدر الذي قد يسهم نسبياً في تهدئة الأزمات والنفوس. { ويشتمل عمل الوحدة عند إنشاء أي سد على توفير التمويل اللازم والقيام بالدراسات الفنية إلى جانب الالتزام بتوفيق أوضاع المتأثرين بالقدر الذي يحدث نقلة إيجابية نوعية في حياتهم. وفي ما يتعلق بسد مروي فقد تم في هذا الإطار الاطلاع على تجربة حلفا والسد العالي وبعض تجارب تركيا والصين للاستفادة قدر الإمكان وتجنب السلبيات، كانت المحصلة الأخيرة السعي الجاد نحو تحقيق رضا التوطين لدى المتضررين من سد مروي على صعيد المشاريع الزراعية والمساكن. وتم تكوين لجان محلية إلى جانب لجنة مركزية لمتابعة الإجراءات، كما وجه السيد الرئيس بتكوين لجنة تثمين لتقدير استحقاق المواطنين عن مزروعاتهم وتعويضهم بأكثر منها. وزيادة في التعاطف وإبداء حسن النية أصدر قراراً بمنح كل أسرة مقيمة 6 أفدنة لتأكيد ملكية جميع المهجرين، الشيء الذي جعلهم في تمام الرضا عن أكثر مما كانوا يتوقعونه ويستحقونه. { وقد كانت خيارات التوطين المطروحة تقوم على أساس ألا توطين خارج الإقليم، وضرورة توفير مساحة كافية للاستقرار الآن وللامتداد المستقبلي، على أن تكون الأرض صالحة للزراعة وفق الدراسات الفنية لتساهم في قيام مشاريع ذات جدوة اقتصادية للحد من الهجرة ودعم خياري الاستقرار والإنتاج.. وقد وجدت هذه البنود مباركةً جماعية تم على إثرها استجلاب لجنة فنية لدراسة طبيعة أراضي التعويض بصورة علمية أقر الجميع بقبول ما تخرج به من نتائج أياً كانت. عليه.. قام أهالي الحامداب باختيار منطقة (الملتقى) التي رأت اللجنة مطابقتها للشروط وتمّ التوطين.. كما اختار أهالي أمري (وادي المقدم-كورتي) وكذلك أمّنت اللجنة على الخيار وتم التوطين.. أما أهلنا المناصير بشقيهم شيل والكاب فقد اختاروا منطقة كحيلة شرق أبي حمد ومنطقة المكابراب، وقد أكدت اللجنة على صلاحية المنطقة وتم تنفيذ مشروع المكابراب. ولكن خرجت بعض الأصوات مطالبةً بدراسة أخرى للمنطقة القديمة كونت لها لجنة مختصة بإشراف البنك الدولي قامت بإجراء دراسات فنية واجتماعية مستفيضة خرجت جميعها بنتيجة واضحة تؤكد استحالة قيام مشروعات للتوطين حول بحيرة السد بسبب تراكم الطمي القادم من النيل الأزرق ونهر عطبرة والذي كان سبباً في جعل بوابات إطماء السد تحت التوربينات ليسهل تنظيفها، كما أن حركتي المد والجزر اللتين تحدثان وفق نشاط السد تؤثران على الزرع. وعليه تقرر منح المتأثرين مساحة تقدر بحوالى 37 فداناً، منها 23 للتوطين الحالي و14 للامتداد المستقبلي. ورغم تلك الحقيقة الواضحة استمرت المجادلة حتى قامت وزارة الري بإجراء دراسة أخرى أكدت أيضاً أن المشاريع هناك لا مستقبل لها. { الآن... هناك مشروع زراعي يقدر بحوالى 105 فداناً من (المكابراب وكحيلة) مروية من النيل مباشرةً ومؤهلة تماماً للبستنة وحولها مناطق سكنية متكاملة بكامل خدماتها التعليمية والصحية ومياه الشرب والإنارة (يتسلل) لها البعض للاستقرار رغم أنف الحصار والمقاطعة الاجتماعية التي يفرضها الزعماء!! فلماذا لا يتم تحرير الخيار أمام الجميع؟!.. ولو كانت القضية هي التمسك بخيار (التوطين المحلي) رغم ما يترتب عليه من سلبيات، فلماذا ظلت المنازل (الألف) التي بنتها الولاية خاوية على عروشها لا يسكنها أحد المطالبين بذلك الخيار؟! إننا نبحث عمن يصدق أهلنا المناصير القول ويملكهم حقائق الدراسات الفنية ويبصرهم بما سيكون عليه المستقبل هنا وهناك ثم يتركهم يختارون ما يوافق تطلعاتهم.. فليس هناك تهجير قسري.. والخيارات متاحة ومن بينها خيار البديل النقدي.. غير أن القضية في الأساس تقوم على الإحساس بالمسئولية والتزام الحكومة بتعويض المتأثرين وفق المنهج العلمي بعيداً عن نظرية المؤامرة التي يمعن البعض في ترويجها لشيء في نفوسهم ووفق دوافعهم الشخصية التي جعلتهم يتاجرون بقضية أولئك البسطاء وجعلهم يفترشون العراء ويهجرون بيوت الولاية المحلية ومشاريع التعويض الآمنة دون منطقٍ واضح، علماً بأن إدارة السد قد وجدت نفسها ملزمة بتوفير 102 مليار من مالنا العام في هذه الفترة العصيبة ودفعها كتعويضات بلغت 70% من النسبة العامة نزولاً عند رغبة المتأثرين! فهل قدر لنا أن تتبدد فرحتنا بسد مروي العظيم وتضيع ما بين أحزانه على ما يقوم به البعض دون تبرير منطقي؟! { اتهموني ما شئتم بأنني مأجورة واهدروا دمي ولكنى سأظل أتساءل عن أصل المشكلة التي استعصت على الحل وبلغت هذا الحد المزري البعيد وفق قناعاتي التي بينتها لي معلومات موثوقة، فالواضح أن القضية لم تعد قضية تعويضات واتخذت أبعاداً سياسية لا تعني الكثير من البسطاء والمساكين هناك.. فلماذا تمعنون في تشوية كل ذلك الجمال والجلال وتحيلون اندفاع مياه السد إلى نوع من البكاء المعلن والدموع التي يذرفها على ما يلقاه من جحود؟.. ألا يستحق (سد مروي) الشامخ الذي ينتمي للوطن والمواطن ويخلد لكل الأجيال دون أي لون سياسي أن نواسيه في أحزانه؟ ألا يستحق بعض التضحيات؟! { تلويح:: في ظل الغلاء المعيشي الذي ربطنا له البطون حرصاً على الاستقرار.. ما الذي يجعلنا نهدر مالنا العام في سبيل الترضيات؟!