ونحن على أعتاب الاستقلال نرفع رايته السامقة، ونحيي فيه ذكرى الذين بذلوا أرواحهم رخيصة، وما ضعفوا وما استكانوا أمام المستعمر الطاغي، بدءاً بالوجود التركي الذين حاربه المهدي وأنصاره، وإلى المستعمر الثنائي الإنجليز والمصريين، لقد ضحى الشعب السوداني قاطبة بروحه ودمه لإجلاء هؤلاء البغيضين، أياً كانت سحنهم، للاستمتاع بنور الحرية ونارها، فهي مجاهدات متصلة من لدن المهدية وحتى إعلان الاستقلال من داخل البرلمان في التاسع عشر من ديسمبر عام ألف خمسة وخمسين وتسعمائة وألف، هكذا قدرنا، العسكريون والسياسيون والعلماء والأدباء والشعراء والفنانون، ما خابوا وما فتنوا ببريق الأصفرين، ولا وعيد الأحقرين (لسان المستعمرين وسلاحهم)، حسن خليفة العطبراوي في عاصمة الحديد والنار كأنموذج وطني مشرف لأهل الفن (يا غريب يلا لي بلدك وسوق معاك ولدك ولملم عِددك)، ومن بيت الفرح إلى غياهب السجن، والقائمة تطول أحمد المصطفى، سيد خليفة، وردي، محمد الأمين، وعذراً لغيرهم ممن لم أذكرهم القابضين على جمر القضية وقد سطروا أسماءهم بمداد من نار ونور على صفحات التاريخ السوداني، ومن الشعراء على سبيل المثال توفيق صالح جبريل، إدريس جماع، الفيتوري، محمد محمد علي، محي الدين فارس، المحجوب، أحمد محمد صالح، دون ترتيب سني، فكلهم تسابق في خدمة الوطن العزيز ولن ننسى التني (ما بخش مدرسة المبشر عندي معهد وطني العزيز) وغيرهم كثر، فعفواً للتداعي الذي هو أكبر من ذهني المكدور في مساحة أرض بلادي من ظل شامخاً كجبل أشم، أو استشهد واقفاً كالأشجار. لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها.. ولكن أخلاق الرجال تضيق ثم ماذا جنينا بعد الاستقلال؟ أهو الحكم العسكري ثم الديمقراطية المخنوقة، ثم الحكم العسكري وحكم الفرد وجبروته، وضيق المواعين الفكرية، ثم الحكم الشمولي الممتد؟. أهو كساح الحركة الغنائية والرجوع القهقري (لحقيبة الفن)، ثم الغناء الهابط أو الغناء العجول في أحسن حالاته، أم هو ضعف الصياغة الشعرية والالتباس في المضامين، والإغراب النصي، واختلاله الوزني، أم هو شلل المسرح، والأداء الفج والمموج الذي هو أقرب للتهريج، وكأن الدنيا حولنا تخلو من النصوص الجيدة والأداء الحُبي (نسبة للحب) والرضائي بعين الرضا التي هي عن كل عيب كليلة، أم هو النقد بعين السخط التي تبدي المساويا.. الافراط والتفريط، القدح والمدح، أم هو ضعف المناهج التعليمية والتربوية، التي ملأت المستهدفين هواءً يفرغ بكامله عقب أداء الامتحان، أم هو الاضطراب الثقافي، وهزال النمازج المقدمة واختلالها، وفقدان البوصلة، وثقافة الفضائيات، وثنائية الكيان الجامع وربما أكثر من ذلك، دليل حيرة وتسييس للمنتج الادبي بلا تفريق بين المبدأ والتكتيك وربما التكنيك، وبين الثابت والمتحول، والهدف والوسيلة. ماذا جنينا بعد الاستقلال؟ دمار قضى على التعليم حينما صار سلماً خشبياً محروقاً متهالكاً، تشتت قضى على الذهنية الثقافية التي لم تعد تقرأ (حرفاً يمر)، جهوية شلّت العقل الجمعي، فتشرذم (سرطانات) زائغة العينين. انفصل الجنوب فصار الشمال كأنه جالس على (بنبر) بعد أن كان (زيراً) قناوياً تضمه (حمالة) والغريب أنه وسط هذه (الضحالة) الفكرية والثقافية والسياسية انتشرت بدعة (الدكترة) فصارت أسماء الكثيرين فنانين وشعراء وملحنين وهلم جرّاً تسبقها كلمة الدكتور، وهي دكتوراه فخرية للأسف، وليست بحثية، وصدقوني وعلى مسؤوليتي الخاصة أن الدكتوراه الفخرية ليست دكتوراه بالمعنى الاصلي ولا الدقيق ولا العلمي لحمل لقب دكتور، فمن ثم لا يحق لمن أعطيت له تشريفاً وتكرماً أن تسبق اسمه، واسألوا أهل الجامعات إن كنتم لا تعلمون. وكل عام والشعب السوداني (ودكاترته)، و(بروفيسراته) (وهذه قضية أخرى) بألف ألف خير. ودمتم.