معلّقة المواعين على ناصية الشارع تمد رقابها مترقبة حضور (سيد اللبن) تشتهي نكهة (القنين) وبعض الزنجبيل والقرفة، وحب الشاي الأسود لمزاج شاي المغرب. وقارورات الرضاعة الصناعية للأطفال تغلي في مياه الانتظار كيف سيتغير صوتها إلى هدهدة النعاس الحالمة، فينتهي بكاء الطفل الصغير إلى النوم. واليوم تغير شكل (سيد اللبن) واللبن ومعيناته، إذ كان الحمار يعرف شكل ومقاس ومعبار كل (بستلة) و(حلة) و(كوريّة) وحاجاتها للّبن وكيفية دفعاتهم الآجلة أو العاجلة! وكان صوت التنبيه واحد هو دقة السوط على نهاية السرج، أو بصوت (سيد اللبن) ذات نفسه. وكانت (التُّمنّة) تلمع بنهايات ضوء النهار وبدايات ضوء لمبات شوارع الحلة، مجلية (بالسلّك اللماع) الذي لا يخدش حياءها الجميل لبياض اللبن فيها! ولا يهتك ستر قماش الحماية المربوط بعناية على غطائها يحفظ إلى أقصى حدود الممكن من الوقاية العادية، رغوة اللبن وكثافته من التلوث بالجراثيم! ثمّ تغيرت الأحوال، وتبدل الحمار ببوكس له نغم (بوري) مزعج يشبه صوت (اللواري) المسافرة في مسلسلات زمان! يتوقف على بداية الشارع وتحجّ إليه المواعين وأصحابها، رامين جمرات السعر المتزايد كل شهر ليحصلوا على لبن فقط دون قيمة، فترى الماعون مادّاً لسانه من طعمه الماسخ (البلا رغوة!)، وتبدلت (التُّمن) إلى براميل بلاستيكية كبيرة تحمل بداخلها كل الممكن من التفاعلات الكيميائية إلى الانتشارات السرطانية! سيطرت فكرة الحداثة على المجتمع في كافة أشكاله المحسوسة والملموسة فعرفنا السوبر ماركت والهايبر... الخ.. وانتشرت الكافتيريات وال(تيك أوي) وتبسترت كل الأفكار الخارجية في شكل عبوات جاهزة؛ اللحوم، الأجبان، الزبادي، الرغيف، البسكويتات - نشتهي رائحة النشادر قبل ثلاثة أيام من العيد! - تغييرات لا بد منها، لكن تستوجب تتبعها بسلوكيات مصاحبة كأن يهتم صاحب السوبر ماركت بتاريخ نهاية الصلاحية للسلع الغذائية، وأن يغير صاحب الكافتيريا زيت التحمير يومياً ويقيس درجة حرارة المكان حتى لا تتخمر المأكولات والمشروبات! وصاحب مصانع الألبان والأجبان والزبادي، أن يراعي الله في كمية البودرة والحبوب الملقاة على (روّاب) اللبن ليتخمر فيكون آلاف الأمتار المكعبة من اللبن والزبادي الجامد والسائل والملوّن! وأن يعيد (سيد اللبن) رغوة اللبن المسروقة بمقادير المياه الزائدة! فزائد الاستحداث، ناقص الأخلاق على ما لدينا من خبرات يساوي غياب (قشادة) الحياة السودانية العريقة التي تتنكَّه بقنّانة اللبن وشاي المغرب وانتظار المواعين والأطفال لسيد اللبن، وعرق العمال في المزارع والمصانع، حتى لا نكون مرابطين في المونولوج القديم (الناس بتمشي لي قدام وانحنا راجعين لي ورا) لكن يجب أن نحافظ على سيرنا الأولى الجميلة فما عيب حمار (سيد اللبن) ذاك الجميل الذي يتوقف إرادياً بكل بيت يعرفه ويعرف مواعين ومواعيد - بل مستهلكي - ذاك اللبن؟! (سيد اللبن) هو واحد من الألقاب التي تعني سيد المال أو المشروع أو الشيء! ويوضح أيضاً أنه الآمر الناهي في ما يخص ذاك الشيء! ولما ترى الشارع السوداني ومواعينه الفارغة من اللبن والماء والأشياء تعرف أن (سيد اللبن) لم يغير الحمار ببوكس أو (زاده موية) فقط! إنما قرر أن يصدّر اللبن والموية والحمار والمواعين، إلى الخارج. أما الناس فالسلك اللمّاع للبنايات سيرضعهم حتى ينعسوا فيناموا.. بخير.