عشرات الأمتار تفصل مقر الجريدة من شارع القصر، فما أن أخذت طريقي في هذا الشارع حتى صاح أحد رجال المرور (يا بتاع الكلك)، لم أنتبه إلى هذا النداء حتى نبهني من كان بصحبتي (الراجل ده بقصدك إنت)، فخرجت إلى جانب الطريق، مخالفة ثم إيصال ثم (ثلاثون جنيهاً)، هكذا نزلت علينا يوم (الأربعاء وعقاب شهر) وهي تكفي لفقد التوازن في ما بقي من اليوم ومن الشهر، مجموعة الأفندية برغم كل زخمها لا تحتمل مباغتة الثلاثين جنيهاً، وهي أيضا تكفي (لصناعة مقال) عزاء، وجريرتي هي أني لم أنتبه إلى (ربط الحزام) مع أني ظللت ألتزم بهذه (الشعيرة المرورية) منذ اندلاعها منذ فترة ليست بالقصيرة، لكن (القتيلة لا تسمع الصيحة)، وقبل أن أذهب بعيداً أقر بأنها (غرامة مستحقة) ومنصوص عليها في ديوان الشرطة، وعلى الأقل أن الشرطة في ما يخص (صاحب الملاذات) تقوم بواجبها تماماً، فجريمتي لم يمض على وقوعها (بضع دقائق) من نقطة تحركي إلى موقع الجريمة وهي سرعة تستحق عليها مؤسسة الشرطة الإشادة، وأنا بالأحرى هنا أشيد بسرعة الإنجاز، ولاحظت أن رجل المرور الذي حرر إيصال المخالفة يمتلك (دبورة واحدة)، لكنها على أية حال تكفي لتحرير الإيصال خاصة ويقال أن رجل الشرطة عند تخرجه يكون أكثر حماساً واندفاعاً لتطبيق القانون، فعرفت من صديقي الذي يشاركني هذه الرحلة أن الضباط الكبار ربما يكتفون في حالة الحزام بالتوجيه ولفت الأنظار، ربما يحاول صديقي أن يعزيني ولكنها على أية حال مخالفة مستحقة وأن الرجل لم يفعل شيئاً سوى أنه طبق القانون بتفاصيله، لا تملك إلا أن تهتف بعد السداد (عاشت دولة القانون).. الشعب يريد دولة القانون، لكن الشيطان أحياناً يتسلل إليك من ثنايا هذه التفاصيل، كأن تجتاحك أسئلة على شاكلة (هل القانون بهذه الكفاءة والفعالية في مواجهة الذين يرتكبون مخالفات مليارية؟!)! الذين لا يربطون (حزام الميزانيات) في المؤسسات والشركات ممن صنعت مفوضية بأكملها لملاحقتهم.. لا أعرف الإجابة، لكن تظل المخالفة مخالفة صغرت أم كبرت، غير أن ذاكرتي تحتفظ بمفارقة مدهشة في هذا السياق، فمرة كنت أسير وراء سيارة باهظة الكلفة مظللة الزجاج، ثم أفاجأ بأن رجل المرور يترك العربة الفاخرة تمر ويستوقفني بحجة «سرقة الشارع»، لأكتشف أنه شارع فرعي ذو اتجاه واحد، فقلت (مال هؤلاء القوم إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد)! قال لي رجل الشرطة يومها (يا زول إنت شغال شنو؟) فقلت له (صحفي)، فقال لي (خلاص يا خي أمشي) لأني أقمت عليه الحجة، الحجة التي تقام اليوم علينا!. غير أن نداءه (يا بتاع الكليك) أثار في نفسي كثيراً من الشجون لكونه نداء (غير حضاري) وهو على شاكلة (يا بتاع الليمون) وبتاع البصل وهي عبارة محترمة لمهن محترمة داخل الأسواق، يجوز استخدامها داخل أزقة الأسواق، لكن أليس للشارع (حرمة تعابيره)، كأن تقول في الطريق (يا أستاذ، يا مولانا) وذلك حسب الحالة، أم أن المواطن لما يقع في مخالفة تسقط عنه الألقاب فيصبح في نظر الشرطة مجرد مجرم يفترض أن يطهر بالقانون قبل أن يسترد ألقابه.. أم أن الشرطة تحتفي بالعربة لا بصاحبها، كأن تقول (يا صاحب الكلك)، فالكلك هي محل تعريف وتقدير بينما صاحبها هو المجهول حتى يثبت هويته، وقديماً كان السودانيون يغنون لأصحاب السيارات وتحفظ ذاكرتنا عبارة (الكريسيدا السمح سيدا) وفي غنائية أخرى (صاحب الفيت)، فلقد تغير الزمان فأصبحت العربة أعظم من صاحبها! عزيزي سعادة العقيد آدم محمد الأمين، بدائرة إعلام الشرطة، بفضل ذلك الإيصال أوشكت أن أذهب لسرير النوم بحزامي، فيفترض أننا نطبق القانون حتى في الأماكن التي ليس بها تواجد شرطي، وذلك بتواجد الضمير عند غياب الشرطة، أفلا أستحق مكافأة! مخرج... وأنا بهذا أعزز من دور الشرطة وفي المقابل أعزي نفسي في هذا الفقد الجلل، فقد الثلاثين جنيهاً، فعلى الأقل إنها شهادة براءة لقبيلة الصحفيين في أزمنة (مفوضية الثراء) إنهم يقيمون مأتماً لفقد عدة جنيهات..