مرت في السادس والعشرين من فبراير الماضي الذكرى العاشرة لرحيل شاعر الوجدان الشفيف مولانا اللواء حقوقي الحسين الحسن الذي شكل ثنائية مبهرة مع عبقري الكلمة والحن والأداء في السودان الدكتور عبدالكريم الكابلي فسار بكلماته الركبان وعم صيته القرى والفرقان ولكي نقف على مسيرته الفنية دعوني اقتبس لكم هذه الكلمات الحرى التي سجلها يراع أستاذنا وزميلنا صلاح الباشا حين بلغه نبأ رحيل الحسين وهو في الشارقة آنذاك فكتب بحزن وألم شديدين ((نعم ... رحل مساء الأربعاء 26 فبراير الماضي بالخرطوم شاعرنا ومفخرتنا الذي أحببنا أشعاره كثيراً مولانا الحسين الحسن .. الشاعر والقاضي والأديب الأريب الذي كانت له صولات وجولات في ميدان الشعر الفصيح المقفى والعمودي والحديث .. رحل الشاعر القاضي الذي كان أداؤه الفني في محاكم السودان يفيض عدلاً جارياً.. بمثلما كان أداؤه كرئيس لفرع القضاء العسكري في فترات السبعينيات من القرن الماضي متميزاً وراقياً.. ولم يبخل بخبراته القانونية علي أهلنا بالخليج.. فكان أداؤه مشرفاً وراقياً في سلطنة عمان، إلى أن داهمه المرض وعاد إلى وطنه قبل سنوات قليلة ليفارق الدنيا وسط أبناء شعبه بالسودان .. كنا ونحن لا زلنا في مرحلة الطالب الوسيط بالمدارس في ستينيات القرن الماضي نعجب ونردد وبكل نشوى مع مبدعنا الأستاذ عبدالكريم الكابلي بتلك الرائعة: ((حبيبة عمري تفشى الخبر ... وذاع وعمّ القرى والحضر.. وكنت أقمت عليه الحصونَ.. وخبأته من فضول البشر.. ولكن برغمي.. تفشي الخبر)) التي تمددت وانتشرت محلياً وعربياً بذلك اللحن الهاديء الشجي الذي أخرجه خيال الكابلي، تقديراً لكاتب النص مولانا الراحل الحسين الحسن حين كانت تجمعه أمسيات الأنس الأدبي والفكري مع الكابلي والشاعر الدبلوماسي الأستاذ عبدالمجيد حاج الأمين وآخرين، كانت صياغة القصيدة وتداول الشعر بينهم يعطر أمسياتهم عند لقاءاتهم الأسبوعية- الندوة الأدبية - التي تنعقد في دار كل منهم من وقت لآخر.. وقد كانت (إني أعتذر) أو حبيبة عمري.. هذه الأغنية الخالدة.. هي نتاج لتلك الجلسات الأنيقة حين كانت أزمنة السودان ولياليه كلها أناقة وأدباً وفكراً وإبداعاً متجدداً قبل أن تغشى البلاد غاشيات الزمان الرديء.. كما كتب الراحل الحسين الحسن للكابلي في ما بعد تلك الرائعة الأخرى: أكاد لا أصدق.. يا أنت.. يا أنت.. إنني.. أهذه الحروف.. كل هذه الحروفِ.. خطها.. بنانك المنمقً.. بنانك المموسق. وكيف لنا أن ننسى مرجعية الحسين الحسن القوية في مجال التحكيم الشعري حين كان يستضيفه الأستاذ (حمدي بدر الدين) في سنوات مجد التلفزيون عندما كان يقدم برنامج: فرسان في الميدان.. فقد كان ميداناً للشعر والأدب وحسن الإلقاء.. وكان الراحل مع الراحلين الآخرين الذين سبقوه إلى الدار الآخرة هم لجنة التحكيم في ذلك البرنامج.. نعم رحل من قبله الأديب الأريب البروفيسور (علي المك).. ثم في مارس من عام 2002م لحق به الفريق أول المبدع الكبير (إبراهيم أحمد عبدالكريم)، عليهما رحمة الله، وهكذا الدنيا.. ورحم الله الشاعر القاضي مولانا الحسين الحسن الذي ظل ديوان شعره الوحيد والذي لم يطبع بعد ينتقل من يد إلى يد ومن دار نشر إلى أخرى.. تارة يضيع وسط الزحام وتارات أخر يصادر من ضمن مصادرات لدار النشر العربي بالقاهرة ولا ذنب له فيها.. ثم يعمل شقيقه الأصغر الأديب الشاعر (دكتور تاج السر الحسن) على جمعه بتكليف إدارة دار الوثائق المركزية بتصوير القصائد من شتات الصحف السودانية القديمة.. ليضيع من دار نشر سودانية تهتم بنشر التراث.. وأخيراً يتم جمعه مرة أخرى من دار الوثائق... وقد التزمت دار النشر بجامعة الخرطوم بطبعه قريباً بجهد من تاج السر الحسن.. غير أن الشاعر قد فارق الحياة قبل أن يرى ديوان شعره النور، والدوام لله ولا حول ولاقوة إلا بالله)) انتهى.. ولكي يقف جيل الشباب على الأحرف الذهبية في فضاءات البنفسج عشقاً عفيفاً ندياً أهدي لهم رائعة الراحل الحسين الحسن التي خرجت درة من أعماق حابس الأنفاس الكابلي فماذا قال شاعرنا عطر الله ذكراه: حبيبة عمري.. تفشى الخبر وذاع وعمّ.. القرى والحضر وكنت أقمت.. عليه الحصونَ وخبأتُه من فضولِ البشرْ صنعت له من فؤادي المهاد ووسدته كبدي المنفطر ومن نور عيني نسجت الدثار ووشيته بنفيس الدرر وقد كنت أعلمُ أن العيونَ تقولُ الكثيرَ المثير الخطر فعلمتها كيف تخفي الحنين تواريه خلف ستار الحذر فما همَسَتْهُ لأذن النسيم ولا وشوشته لضوء القمر ولكن.. برغمي تفشي الخبر وذاع وعم القرى والحضر حبيبة قلبي وهل كان ذنبي إذا كنت يوماً نسيتُ الحذر ففي ذاتِ يومٍ رقيقِ النسيمِ كثيرِ الغيومِ، قصيرِ العمرْ ذكرتُ مكاناً عزيزاً عليّ وأنتِ به وأنا والأُخر ذكرت حديثك ذاك الخجولَ وصوتُك ينساب منه الخفرْ تقولين ماذا تقولين ويحي وهل كنتُ أفهمُ حرفاً يمرْ ولكن برغمي تفشي الخبر وذاع وعم القرى والحضر تقولين ماذا تقولين ويحي وهل كنت أفهم حرفاً يمر فصوتك كان يهدهد روحي ويحملني في جناحٍ أغر يحلق بي حيث لا أمنياتٍ تخيب ولا كائناتٍ تمُرْ وهومت حتى تبدّى أمامي ظلامٌ رهيب.. كفيفُ البصر وقفت عليه أدقُّ الجدارَ فما لانَ هوناً.. ولم ينشطرْ فعدتُ تذكرتُ أن هواك حرامٌ على قلبي المنكسر حبيبة قلبي، وهل كان ذنبي إذا كنت يوماً نسيتُ الحذر؟