دعوت البروفيسور محمد أحمد بن عوف الجراح الأستاذ بكلية الطب وصاحبنا وجارنا في كوستي إلى إحدى المناسبات العائلية بودنوباوي، وطلبت منه أن ينقل الدعوة إلى صديقنا وجارنا القديم المشترك محمد كامل حسن الشهير بود الكامل، وكانت المفاجأة أنه مات وعاتبت البروف على عدم إخباري وقدرت شواغله في نفس الوقت . وكان ود الكامل اكتفى بتعليمه الأوسط أول الستينات ليلتحق بالسكة الحديد استجابة لحاجة البيت له، فقد مات والده وأصبح ملزماً بتلبية احتياجات أسرته الصغيرة المكونة من والدته وجدته لأبيه وشقيقه الوحيد زميلنا ودفعتنا عوض الله، واستطاع أن يؤدي المهمة بكل الاقتدار والرضا. وكان قارئاً محباً للحياة وللنقاش، وكان يتكلم كثيرًا لكننا لم نكن نتضايق من كلامه الذي لا يتوقف، فقد كنا نستمتع به وكنا نثيره بالكلام عن الذي لا يحبه، وفي المقدمة منه المريخ وسيدة الغناء العربي أم كلثوم فقد كان هلالابياً حتى النخاع . ولم يكن يحب أغاني أم كلثوم وكان يقول إن ما يصحنيش وينتهيش وموش عارف إيش لا يمكن أن ترقى إلى مستوى البان يتعلم من قامتك الميسان. وما يصحنيش وما ينتهيش كلمات وردت في أغنية أمل حياني التي نظم كلماتها الشاعر أحمد شفيق كامل ولحنها الموسيقار محمد عبدالوهاب وغنتها أم كلثوم في عام 1965م، وهذه الأغنية بالذات هي أحب أغاني أم كلثوم إلى نفسها لكنها بنظر ود الكامل كلام فارغ ركيك، ونعتقد أن صديقنا العزيز ظلم هذه الأغنية ففيها كثير من الأبيات الجميلة ومن ذلك مثلاً: نفسى أنده لك بكلم ما إتقالتش لحد تاني كلمة قد هواك ده كلو قد أشواقي وحناني كلمة زيك واللي زيك فين ده إنت زيك ما أتخلقش اتنين أما البان يتعلم من قامتك الميسان فهي شطر أو بيت من أغنية في الطيف أو في الصحيان للشاعر البنا وهي من روائع حقيبة الفن، وقد غناها كثيرون منهم البلابل، وكان أداؤهن لها عشرة على عشرة. وكان ود الكامل مرجعاً في الحقيبة وفي أغاني خضر بشير وهو أصلاً من شمبات وهاجر والده إلى كوستي في الأربعينات وكانت كوستي في ذلك الوقت مدينة جاذبة . وأقام في حي الشاطئ على بعد ثمانية أمتار من بيت البروف ابن عوف وعشرة أمتار من بيتنا، وكانت البيوت مفتوحي على الآخر، وكنا نلتقي يومياً أيام المدرسة وفي الإجازات في أي من هذه البيوت وفي الشارع، وكأننا أهل بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ. وكان آخر عهدي به هنا في بيتنا بالثورة في السبعينات وكان معه البروف ابن عوف ثم شغلتنا الدنيا وعرفت أنه شغله المرض أيضاً وحزنت كثيرًا بوفاته، فقد كان أخاً غالياً وصديقاً حقيقياً وله مكانته الثابتة في كل الصبا وفي كل الشباب الأول، ولقد كان إنساناً ضاحكاً ساخراً طيباً أبياً، وكان قطعة من العمر المنصرم ومن كوستينا القديمة رحمه الله.