لما توج الإسلاميون رحلتهم الفكرية التاريخية بالوصول إلى منصة الحكم في السودان عام 1989، كنت أتصور أن القوم سيصعنون لشيخهم الترابي ما يشبه «العريش» ليجلس عليه، حتى يكون في وضع «فوق المؤسسات» يؤهله لمراقبة مباراة التنمية والإعمار والتأصيل والأسلمة، وذلك من جهة يعتبر تكريماً للرجل «المؤسس» والذي قاد الحركة من «أركان الجامعة» إلى أركان المجتمع، بل الذي بلغت شهرته أركان الدنيا كلها، ومن جهة أخرى حتى يتسنى للرجل الشيخ أن يكون دوماً نظيف الأيادي طاهراً للفجر مما يمكن أن تخلفه بعض ممارسة السلطة من أدران وأحقاد، يظل أيضاً مؤهلاً للحكم على تلاميذه وبناته إذا ما اختلفوا يوماً، على ألا يكون جزءاً وجناحاً من أي صدع محتمل. غير أن الفاجعة الكبرى والمفاجأة حدثت يوم أن جعلوه أو جعل نفسه لا أدري، رئيساً للمجلس الوطني، وأنا شخصياً كنت أظن أن الدكتور الترابي أحد الذين يحملون لواء الفكر الإسلامي العالمي، بعد السودان سيتفرغ لا محالة لقضايا الشعوب الإسلامية حول العالم، لكن فوجئنا بأن شيخ حسن، المفكر العالمي يحتبس كل ساعات النهار في البرلمان في إمكانية البحث في أزمة «مياه أمبدة»، وكنا ندخره للبحث في قضايا «مياه الأمة العذبة» من الفرات إلى النيل إلى المغرب العربي، ثم استهلك الرجل تماماً في حل النزاع بين «عرب البحر» وعرب الخلا في إحدى ضواحي شندي، بدلاً من أن يوظف أفكاره الشاهقة في حل النزاعات الأممية الإسلامية كالنزاع بين فتح وحماس الفلسطينية، كنت يومئذ أنظر إلى هذا الأمر كما لو أنه مؤامرة ضد الإسلاميين السودانيين وشيخهم ينكفئ ويستغرق في تفاصيل يمكن أن يضطلع بها أحد «الأفندية الصغار».. هكذا صغرت طموحاتنا وتقزمت، ذلك إذا تجاوزنا السؤال: وضع نفسه أم وضعوه في هذه الدائرة الصغيرة جداً! غير أن الضربة القاضية «للفكر الحركي الإسلامي السوداني كانت يوم اندلاع «أزمة المفاصلة» ولو أن شيخ حسن بقي في «عريشه» وعليائه ولم ينزل إلى سماء التنفيذيين والأفندية الدنيا لأمكنا تجاوز ذلك الخلاف ولما ضربت الحركة الإسلامية في مقتل، غير أن الشيخ قد أصبح جزءاً من الأزمة فكانت حيرة الإسلاميين يومئذ مذهلة وشاهقة هل يبقوا مع الحكومة التي صنعوها بليل الأسى ومر الذكريات وقدموا خلالها عشرات الآلاف من الشهداء أم يذهبون مع الرجل الشيخ المؤسس، أين الفكرة وأنا شخصياً ذهلت أكثر يوم علمت بأن شيخنا الذي كسبنا به السودان وسنكسب به ونزحف إلى بقية الدول العربية لإعادة «الخلافة الراشدة»، بالكاد يقدم أوراق اعتماد لوظيفة «نائب الرئيس» بعد أن خلت هذه الوظيفة باستشهاد الزبير محمد صالح! هكذا انتهت الرحلة بشيخ حسن الذي كان على رأس الملايين، إلى قيادة حزب صغير بالكاد لا يملأ كل عربات «أمجادات» الخرطوم، الرجل الذي كان على هامات كل أمجاد السودان، وحتى إذا احتكمنا إلى جدلية أن الحق لا يعرف بالكثرة، ففي المقابل إن مسيرة عقد من المؤتمر الشعبي لا تجعلنا نزعم بأن الحزب قد ذهب «لصناعة فكرة» أو إحياء فكرتنا الأولى وقصتنا إذا سلمنا أن شقيقه المؤتمر الوطني قد باعها في «سوق النخاسة»! فسياق الأحداث يقول غير ذلك، فالحزب متهم بدعمه لحركة جهوية إثنية في رقبتها رقاب آلاف السودانيين، المؤتمر الشعبي يحتاج أيضاً أن يوجد «تخريجات شرعية» لوجوده في معسكر الشيوعيين والعلمانيين والإثنيين؛ هذا المعسكر الذي ينتهي إلى دولة جنوب السودان المسنودة من إسرائيل مباشرة، فضلاً عن أن لغة خطاب إسلاميي الشعبي قد تدنت كثيراً على عهد الأستاذ المحامي كمال عمر! ثم توج ذلك الاتجاه بانسحاب «الحزب الفكرة»، الحزب الرجل المؤسس، من ركب «وثيقة الدستور الإسلامي» التي أحرجته مع حلفائه الشيوعيين والعلمانيين. بين يدي دورة الانعقاد ودورات التاريخ نتساءل، هل لا زالت هنالك فرصة لكن يصعد الشيخ إلى عريشه والرئيس إلى قصره والجمهور إلى المنابر والحقول والمصانع؟!.