كتبت أمس الأول في هذه المساحة مقالاً تحت عنوان «الدستور الإسلامي لماذا؟»، واليوم أكتب على طريقة الدستور الإسلامي كيف؟ والعنوانان مسجلان باسم الرئيس الراحل جعفر نميري، ما أشبه الليلة بالبارحة، صحيح أن الإنقاذ قد بدأت من أول بنهج إسلامي، اختلف الناس حوله أم اتفقوا، إلا أن مياهاً كثيرة قد مرت من تحت «جسر الإنقاذ» الإسلامي، وأن كثباناً من الرمال قد غطت بعض الآثار والمعالم في الطريق، مما يضطر بعض المختبئين والحادبين إلى أن يطرحوا في هذه المرحلة المنعطف «أطروحة الدستور الإسلامي»، والقوم يعكفون هذه الأيام على صناعة دستور جديد للجمهورية السودانية الثانية في نسختها الجديدة، هكذا يطرح الآن الإسلام بقوة في ظل ثورات الربيع الإسلامية التي تندلع في كل مكان، وأقول ما أشبه ليلة الإنقاذ ببارحة مايو لما طرح رئيسها نميري، يرحمه الله، سؤاله ذاك، النهج الإسلامي كيف؟ كان الرجل الذي بدأ يسارياً، ثم ضرب اليسار واحتمى بالوسط الصوفي، ثم لم يلبث أن انتهى إلى طريق «صناعة الدولة الإسلامية» لكنه تساءل عن كيفية هذه الدولة، وهذه تذكرني بواقعة صناعة البنوك الإسلامية السودانية، والرواية يقول بها أحد فرسان «الاقتصاد الإسلامي» الأستاذ عبدالرحيم حمدي وزير المالية الأسبق، قال حمدي: لقد جاءنا يوماً الأمير محمد الفيصل بالخرطوم وأبدى رغبته في «صناعة بنك إسلامي»، بنك فيصل الإسلامي فرع الخرطوم، قال.. فقلنا لسعادة الأمير اذهب واطرح الأمر أولاً على الرئيس نميري وهو لا محالة سيرجع إلينا وذلك حتى لا يعتبرها «مؤامرة إسلاميين»، وكان الإسلاميون يومئذ يعيشون شهر عسلهم مع مايو، إلا أنه شهر وعسل لم يخل من بعض الهواجس، قال الأستاذ حمدي: قد ذهب الأمير إلى الرئيس وأبدى رغبته في إنشاء بنك إسلامي بالخرطوم، فقال الرئيس نميري: «أعطني مهلة وسأجيبك»، قال.. فطلبنا نميري بالقصر الجمهوري ثم قال لنا: «لقد جاء ود الفيصل «وقال داير يعمل بنك إسلامي».. القصة ممكن تبقى»؟ قال السيد حمدي فاختطفنا الفكرة وقلنا للرئيس.. جداً ممكن تبقى». وهكذا لما عبر جعفر نميري المسافة الشاهقة والشاقة من «أقصى اليسار إلى أقصى اليمين ووقف على «تلة عالية» متسائلاً كما المتنبي: «أطويل طريقنا أم يطول»؟ فدفعه الإسلاميون من الخلف دفعاً، فلم يملك إلا أن يقف على وجه التاريخ «ليريق الخمور في نهر النيل» ويصدر قرارات جمهورية حاسمة يقفل بموجبها كل الخمارات، وذلك قبل أن تهتز الأرض تحت كرسيه، يوم أن لبس بزته العسكرية وذهب إلى التلفزيون ليعلن «ألا رأيه تعلو راية الاتحاد الاشتراكي» فلم يلبث بعدها إلا قليلاً. ويستدير الزمان كهيئته تلك ولما فترت عزيمة الإنقاذ الفكرية لكثرة المتاريس والعقبات التي يضعها الآخرون على الطريق، وفي هذه المنطقة التاريخية الفارقة، الانتقال إلى الجمهورية الثانية، وفي هذه المنطقة الوسطى يخرج بعض النشطاء الإسلاميين بمنطق «الإسلام هو الحل»؛ اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى، والضربة الأولى تبدأ بالتنادي إلى «الدستور الإسلامي» الذي هو بمثابة «الخط الأول العريض» والعنوان الأبرز الذي يجب أن يوضع على صدر الجمهورية والأجندة و«الأفكار المروسة»، سيما وأن «صخرة الجنوب» التي كانت تسد الطريق المؤدي إلى شارع الجمهورية الإسلامية، وشرعه قد تزحزحت عن الطريق، فكانت قبائل اليسار إذا احتمى وطيس «الدولة الإسلامية» تحتمي بالإخوة الجنوبيين، على أن «الشريعة الإسلامية» ستهزم «الوحدة الوطنية»! لهذا وذاك حسب العلمانيين الليبراليين والشيوعيين يفترض أن نتحاكم إلى «دولة المواطنة»؛ الدولة المدنية التي لا يعلو فيها دين ولا عرق ولا فكر على الآخر! والمدهش أن الجنوبيين أنفسهم لم يقولوا بهذا القول، بل نيفاشا في مستنقعاتها تلك قد نصت على أن للشمال الحق في تحقيق أشواقه ورغباته وشريعته، إلا أن يساريي الحركة الشماليين هم الذين التفوا في خاتمة الأمر على هذا النص، ما أورثنا حالة الجمود هذه التي تسعى بعض النخب الإسلامية والجماعات الآن إلى تجاوزها، على أن الفرصة مواتية أكثر من أي وقت قد مضى لإقرار الدستور الإسلامي. إلى هنا وكل الأمور تبدو طبيعية، غير أننا كأمة سودانية مسلمة تحتاج إلى أن تتوافق على «خطة عمل مرنة» تستوعب كل المدارس الإسلامية، وذلك حتى لا ندخل في «عراك داخلي» على أن تتواضع كل جماعاتنا الفكرية على أنها «جماعة من جماعات المسلمين»، ألا يخرج علينا من يزعم أنه «جماعة المسلمين» المبرأة من كل عيب، الفئة الناجية، التي لا يأتيها الباطل من خلفها ولا من بين يديها. نعم وألف نعم إلى الذهاب إلى الجبهة المناصرة للدستور الإسلامي، وهي مرحلة يصلح لها شعار «جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً»، وما انتفش الباطل إلا عندما سكن الحق فخروج الحق إلى المنابر والطرقات وقارعة الإعلام سيعيد الأمور إلى نصابها بإذنه تعالى. أخي الأستاذ الشيخ/ علي أحمد جبريل، إمام وخطيب مسجد الإحسان بشرق النيل، أرجو أن أكون قد لامست بعض أشواقك وأشواقنا القديمة الجديدة، غير أننا نحتاج إلى هذه «الجبهة الإسلامية الدستورية» لمقابلة كتائب الباطل التي تجمعت الآن في دولة جنوب السودان، ليعلم السادة الدعاة والائمة أولاً أن السودان قد أصبح من دول الطوق، فإسرائيل الآن موجودة في جوبا والقوم هم القوم، والشهادة أصبحت ممكنة، الشهادة الحق في مواجهة اليهود الغاصبين، فيقع على عاتقكم تبصير جموع المصلين بأن الأمر قد أصبح «جد» وأن المعركة أصبحت أكثر قدسية وأنصع وضوحاً.. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، ساووا صفوفكم إن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج. وقوموا لصناعة دستوركم الإسلامي...