قراءة مختلفة عما ورد سابقاً حول مقالي عن الفنان طه سليمان وأقرانه، ذاك المقال الذي أثار جدلاً كثيفاً عن حاضر الأغنية السودانية ومستقبلها الغامض، ويبدو أنني كتبت المقال بصورة جعلت البعض يأخذ مداخله الأولى قضية مسلماً بها في مدحهم وبعضهم امتلك الصبر وواصل القراءة واستوعب ما اختبأ بين السطور ولم تخطه الأحرف. ثم جاءت سلسلة المقالات عن الفنان العظيم زيدان إبراهيم لتضع مزيداً من الحيرة بين هؤلاء وأولئك، ولعل ما كتبه الكاتب الجميل عبد الله الأحمر من إيطاليا خير دليل على سحب الغموض هذه، حيث يقول الأحمر في رسالته: الأستاذ: معز عمر بخيت تحية طيبة وددت في الزمن الماضي أن أراسلك من أجل تبادل بعض الموضوعات، ولقد لفت انتباهي مقال كتبته أنت في حق فقيد الفن زيدان إبراهيم، وكنت قد هممت أن أستدرك عليك امتداحك للفنانين الشباب في مقال آخر بينما في المقال الأخير كنت شديد الحيرة لعدم معرفة الشابات اللائي كن معك في السيارة لبعض الأغنيات بل والمغنيين بقامة زيدان إبراهيم رحمه الله. كنت أود أن أقول لك إن في جيل فناني اليوم أصواتاً جميلة بل وفريدة، مثل شريف الفحيل حسب وجهة نظري وهم بحق يعبرون عن هموم شباب اليوم أكثر من تعبيرهم عن رومانسية متوهمة، ويؤسف المرء أن هموم شباب اليوم تقول: «أنا عايز أعيش.....» ليست كما قالها «طه سليمان»:أنا عايز أعيش لبسمتك»، لأن المعنى هنا نبيل لكن همومنا دائماً من صنف عايز أعيش فقط، ولعل سرعة إيقاع الموسيقى اليوم هي تعبير طبيعي عن سرعة إيقاع الحياة العام مع أن السؤال الكبير سيبقى دائماً (إلى أين تفضي كل هذه السرعة المتوهمة عندنا في السودان)؟ المهم هو أنك أسرفت في الثناء على هؤلاء الفنانين الشباب وهم ما يزالون في جلباب قدمائهم لكنهم خلقوا للكلمات القديمة إيقاعاً جديدًا سريعاً ولرتابة الفضائيات السودانية، فقد مل الناس كل قديم، وجاءت النتيجة على كلمات غالية مثل «لو أحبك عمري كله» ومحت كلمات عذبة ك (بالي مشغول يا حبيبي). هذه لحظات تتملكني فيها روح زيدان، رحم الله زيدان الذي أحزننا بحق ورحل عن دنيانا وخلّف فراغاً بحجمه. لكنني كنت في الأسابيع الماضيات كما قال إبراهيم ناجي: وإذا القلب على غفرانه كلما غار به النصل عفا. فأنا كلما سننت سيوف الحرب لأحدهم أجدني أثاقل للأرض في اللمسات الأخيرة من كل مقال، وبذلك بقيت حتى كلماتي في الرد عليك، وهي فقط من أجل المزاح لا تبلغ أن تكون حرباً، بل هي استئناس بكلمتك واستدراكاً عليها. ما حركني اليوم لكتابة هذه الرسالة هو ما بلغني من نبأ تكريمكم في الآونة الأخيرة وحصولكم على جائزة الشيخ محمد بن عبدالله آل خليفة العلمية، ولقد أسعدني والله أيما سعادة ذلكم التكريم المستحق لشخصكم، ولكم تمنيت أن ينال السودان بعضاً من إنجازات أبنائه لو أن هؤلاء الممسكين بخناق الوطن يذهبون. أرجو صادقاً أن نراك في مقامات المجد دائماً عالماً عاملاً لخير الإنسانية عموماً والوطن، ونرجو لكلماتك الجميلات أن تصادف توقيتاً موسيقياً يرسلها مع صوت جميل لدواخلنا المجروحة من كل قبيل. كي ننسى لمرة كلمات (واقف براك) و(ضليت هرب مني الأمل جنيت). لك الود أستاذي الكريم عبدالله عبدالعزيز الأحمر. الشكر الحميم للأخ الحبيب عبد الله الأحمر، وأنتهز هذه السانحة لأعود معلقاً على المقال الأول عن الفنانين الشباب، وأقول إن دليلي على أن الصبر على القراءة ينفذ حتى مع كتاب متمرسين مثل الحبيب الأحمر ومثل الأخ الصديق جلال جبار من الدوحة، حيث علق على المقال قائلاً: العزيز دكتور معز، أنت صاحب كلمات تتعارض تماماً مع ما نسمعه من غناء أزقة وشوارع وكابريهات، كان بوسعك محاربة هذا النمط الفني الغريب عن مجتمعنا وأخلاقنا. الجينات لا تتغير والشعب السوداني من جينة واحدة يرفض كل ما هو يدعو للميوعة والانحطاط.. أسفاي.. أسفاي على هذا الزمن الرديء الذي أصبح فيه حتى للانحطاط الفني طعم.. طعم عند البعض. دعني أقول ولا أشك في ذلك ليس دفاعك عن هؤلاء هو دفاع عن الانحطاط بقدر ما هو البحث عن مخرج من هذه الأزمة، أزمة الضمير. وتصبح الحقيقة: عندما انفجرت قنبلة طه فجرت مخزوننا الاستراتيجي من الفن الأصيل والآن نعيش في حقل ألغام فني. جلال جبار. مع الشكر المقدر للأخ جلال لكني أجد وبكل أمانة أن أحرف العزيزة أميرة عمر بخيت هي من استوعبت بعمق وصبر رسالتي من المقال، ولعلها تكون مسك الختام لتلك السلسلة من الهبوط الاضطراري الذي لجأت إليه كاتباً ومعلقاً، فقد كتبت أميرة قائلة: الحبيب معز، هذا المقال من أجمل وأصدق ما قرأت في الآونة الأخيرة (كالمرآة شفافية وصدقاً). و أنا أقرأ وجدتني غارقة في الضحك حتى غصت في قهقهاتي وبعض همهمة ولحظة أن ختمت قراءتي أصبت بحالة صمت مريبة ولم أدر كيف أخرج نفسي من هذا التوهان، ثم واصلت القراءة في حالة الصمت ذاتها. مررت على جميع ما كتب فأدركت أن الأمر ليس طه سليمان أو سامي عز الدين أو نزار المهندس أو حتى قرقوري إنما الأمر أمر أمة كاملة، ولن أقول جيلاً. ولعل الأمر أمر عمق معرفي أو فلنقل لحظة تأمل عميقة في أنفسنا وما حولنا من متغيرات. لما أخطأ البعض فهم هذه المقالة؟ أو هي أزمة أخرى؟ لعلنا نحتاج زلزلة تسقط معها القشور ليبقى اللب أصل الأشياء وحينها قد نضحو جميعاً من هذا البيات الثقافي والمعرفي والذوقي و و وو، لعلنا نصل إلى رقعة مأهولة بالفكرة وبعض الزمن (القيمة) عسانا نقف برهة ونعي إلى أين نحن سائرون. مدخل للخروج: عدواً أتيتك حاملاً كلي إليك بما حويت وما حملت وما أود وما أريد.. لا البحر يطفئ ظامئي لا هذه الأحلام لأبيت القصيد.. لا كل عشق في الدنا يروي دمائي بالمشاعر والمنى.. لا قدرة في الأرض أو شهباً تسافر في السماء إلى البعيد.. إلا عيونك والصفاء العذب يقطر مثل حبات الندى في كل أعماق الوريد.. إني استقيت وما ارتويت فهل لنبع من لدنك يصب عندي من مزيد؟