استعادة هجليج وتحريرها من الغزاة شكّل الملمح الأبرز لأحداث يوم أمس (الجمعة). مواكب النصر وأفراح الشارع سيطرت على قرى، حواضر، نجوع، بوادي، وفرقان السودان المختلفة. بشارات النصر انطلقت على لسان وزير الدفاع عبد الرحيم محمد حسين. بنبرات قويّة بثّ بيانه: ((القوات المسلحة أدّت صلاة الجمعة بالمنطقة)).. ((القوات المسلحة والمجاهدون كبدوا الجيش الشعبي خسائر فادحة في معارك ضارية خاضها الجيش السوداني بمساندة من القوات النظامية الأخرى والمجاهدين)). هذه وغيرها من العبارات القاطعة المعبأة بمفردات النصر كانت تنقلها شبكات التلفزة المحلية والكونية. قلوب السّودانيين بالأمس كانت تنبض بالحبور. أيدي الجميع كانت تعابث أزرار المحمول، وتتسابق لتئن شبكات الهواتف النقالة من حمولة المكالمات الناقلة للخبر السعيد ما إن أنهى وزير الدّفاع تلاوة البيان حتى تدافع الآلاف من أبناء الشعب السودان نحو الطرقات، في مسيرة عفويّة جابت شوارع العاصمة القومية. آخرون يمّموا وجوههم شطر القيادة العامة حيث خاطب الرئيس البشير جموع الشعب السوداني. مسيرة النصر كان الشعار الطاغي خلالها: (جوبا جوّه) وهو هتاف يطالب في مضمونه القوات المسلحة بالتقدم نحو عاصمة دولة جنوب السودان التي اعتدت على السيادة السودانية. المطالبة تحمل توقاً لإجراء تأديبي نحو المعتدي حتى لا يفكر في مهاجمة الأراضي السودانية مرة أخرى، "يجب أن يعرفوا حدودهم" حسبما قالها لنا أحد الذين غمرتهم نشوة النصر، قبل أن يضيف: "تحتاج جوبا إلى إجراءات أكثر حسماً حتى لا تنجر مرة أخرى لمثل هذه الفعائل". أحمد حسن مواطن سوداني في مطلع العقد الثالث من عمره كما يشي مظهره، قال إنّ ما قامت به دولة الجنوب يعتبر استفزازاً للشعب السوداني، ظللنا طيلة هذا الأسبوع نبتهل بالدعاء لنصرة القوات المسلحة، لأن ما حدث شكل قلقاً كبيراً لنا، أما وقد تحررت هجليج - كما يمضي أحمد في حديثه - فهذا شرف للأمة السودانية التي ظلت تتابع مجريات الأحداث (يوماً بيوم)، نحن نريد من القوات المسلحة أن تتقدم نحو عمق جنوب السودان. نريد حدودنا آمنة و... محدثي غاص في لجة الزحام، بعد أن لوّح بيديه لحشد من الشباب الرافعين للأعلام في مرورهم قبالتنا. على طول الطريق المؤدي إلى القيادة العامة صعدت مجاميع كبيرة من المحتفلين على أسطح المباني المجاورة، فيما طغت ألوان العلم السوداني على ما عداها من ألوان. البعض كان يقبل الأعلام تعبيراً عن الفرح. المسيرة العفوية التي جابت طرقات الخرطوم شهدت خروج أعداد كبيرة من سكان الأحياء الراقية، وهي أحياء يرمي البعض سكانها بأنهم لا يعبأون بالمشاركة في المسيرات، حيث ظلّ الأمر قاصراً دوماً على تلك الأحياء الطرفية، كمناطق مأهولة بالحشود، ويسهل استقطاب وحشد الجماهير منها لدعم أي قضية. المسألة جاءت عفوية، وحلّل البعض نصر هجليج بأنه حقق الإجماع الوطني بين مختلف أبناء الشعب السوداني، فالقضية مرتبطة بالسيادة الوطنية والتي عندها تذوب كل الانتماءات الحزبية والفوارق الطبقية. أعداد كبيرة من الجنود كانوا يبادلون المواطنين تهاني النصر. في غمرة الحماسة تقدم صبي لم يتجاوز التاسعة من عمره نحو بعض الجنود على جنبات الطريق، وطلب التقاط صورة معهم، شاركتُه البسمة واستنطقته عن مغزى اللحظة التي يريد اقتناصها، فأجاب: (حأحتفظ بها، دي رمز النصر)، قبل أن يضيف: ديل شرف الأمة وده سطر جديد من ملاحم الفداء. محدّثي تقافز بخفّة تتسق وعمره في طريقه نحو العربة التي كانت تقل عدداً من أفراد عائلته، يتأمل في الصورة مع أحبائه ويرسل لمن أهدوه شرف التوثيق علامة النصر بيمناه. على الجانب الآخر من الطريق كانت جموع من النساء يقدمن أكاليل من الزهور للجنود وهن يهتفن: الله أكبر. الهتاف ذاته ظلّ يمثل خلفية صوتية لمشهد البارحة، حيث تردد صداه في المكان، تتداخل معه أصوات الأهازيج الغنائية وأبواق السيارات. عبر مكرفون يدوي محمول كانت تخرج أيضاً الهتافات من أحد الباعة المتجولين، تدافع الأمس لم يستثنِ أحداً. أعداد كبيرة من فئة الباعة والسريحة تركت أعمالها وتلاشت مع الجموع في مواكب النصر بالقيادة العامة، على الرغم من أن يوم الجمعة (سره باتع) في السوق، بل وينتظره البعض من أهل هذه الفئات لتسويق بضاعتهم التي لم تجد حظها من البيع في بقية أيام الأسبوع. أصحاب المركبات كانوا كذلك عند الموعد، خطوط النقل كانت تعمل بين المواقف الرئيسية والقيادة العامة. حضور الشباب كان مميزاً، بعضهم مصنّف بكونه لا اهتمامات سياسية لهم. رؤوس بعضهم كانت ملفوفة أمس بعلامات ورموز الوطن والجيش، وهم الذين كان بعضهم يضع (سايد كاب) عليه صورة نجوم الروك آند رول ومشاهير الغناء الغربي. معاصمهم هي الأخرى كانت تزينها ألوان الوطن أبوعبيدة عوض