تسعة أعوام انقضت منذ أن دارت رحى الحرب في دارفور مخلّفة وراءها خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات. الخاسر الأوّل بالطبع كان إنسان الإقليم بوصفه كامناً في فوهة المحرقة، عند مرمى قذائف الحرب وويلاتها كلّ هذا الزمان. نار المعارك التي قادت بتغييب الاستقرار والطمأنينة في دارفور وتدمير القرى والأرياف قضت بحالات نزوح جماعي للمواطنين صوب المناطق الآمنة، أو قل تلك التي توخوا فيها ملاذاً للحماية. بعد أقل من عام على اندلاع التمرد في الإقليم عجّت أطراف المدن الكبيرة بولايات دارفور واكتنزت بمجموعات النازحين الهاربة من أُتون الجحيم، وانتظمت فيما يعرف بالمعسكرات. حاولوا بقدر المستطاع تسيير أمور حياتهم اليومية، شجّعهم على ذلك ظهور المنظمات الطوعية في المشهد بغية تقديم المساعدات الإنسانية وتخفيف قتامة الوضع. من هذا الخضم اكتسبت معسكرات أبو شوك وزمزم ورصيفاتهما شهرتها العالمية، رغم الاتفاقيات التي وقّعت في أعقاب السلام، وعلى الرغم من هدوء الأوضاع إلا أنّ النازحين كانوا على الدوام يفضلون عدم العودة وبدا انحيازهم لخيار الاستقرار في معسكراتهم بائناً في عديد من اللحظات المفصلية من عمر الاتفاقات القاضية بالعودة الطوعية وتسهيل سبل العيش في مناطقهم الأصلية. البعض يفسر المسألة بترسبات نفسية داخل هؤلاء وتخوفات تراودهم من تكرار ذات المشاهد التي حصدت أرواح ذويهم وأقربائهم في وقت يشير فيه بعض المراقبين إلى أنّ الأوضاع داخل المعسكرات توفر لقاطنيها احتياجاتهم الخدمية سيما وأنها بمرور الوقت أصبحت كما الأحياء من حيث اشتمالها على مقومات التعليم والصحة وخلافها بأقل التكاليف ما دامت يد العون ممتدة. الناظر للحال داخل معسكرات النازحين بولاية شمال دارفور يجده يرسم صورة توضيحية لشكل استقرار حياة النازحين وابتعاد أحلام العودة إلى القرى رغم مظاهر المعاناة بسبب شح المياه التي يغالبونها بالإصرار العنيد للحصول عليها باستخدام الأيدي التي لا تفتر من الضغط على مضخات المياه اليدوية الموزعة على أنحاء معسكرات أبو شوك وزمزم وأبوجا الواقعة في أطراف مدينة الفاشر، والصورة التي وثقتها (الأهرام اليوم) من داخل معسكر أبوشوك لا تنبئ باحتمالية العودة إلى القرى، حيث الواقع المغاير لأوضاعه أول ما تقاطرت عليه جموع النازحين الذين تم إيواؤهم في مخيمات ووزعت عليهم المنظمات الإغاثة شاملة الغذاء والدواء والكساء، ولكن يبدو أن دورة الأيام فعلت به فعلتها وتغير الحال إلى الأفضل بعد أن مارس النازحون مظاهر التمدن، وأصبح من المناطق المأهولة بالسكان، وأصبح يبدو وكأنه أحد أحياء المدينة الشمالية، وتنتظم وسائل المواصلات من وإلى المعسكر من سوق الفاشر الكبير وبتعرفة لا تتعدى قيمتها (الواحد جينه) عبر مركبات الأتوس الحديثة، واعتياد النازحين على بيئة المكان جعلتهم يبدلون الواقع بفضل الجهود والعزيمة القوية مستخدمين ما توافر لهم من مواد طبيعية في بناء منازل وبيوت أحالوها إلى ديار عامرة رغم بساطة مكوناتها المتمثلة في الطوب الأخضر، وتم تقسيم المعسكر إلى أحياء ومربعات، ويضم أبوشوك أيضاً سوقاً كبيراً قد يضاهي في سعته سوق الفاشر، ولم ينسوا أمر التعليم فشيدوا عدداً من المدارس الابتدائية لتعليم النشء، ويطمع قاطنوه في إزالة المعاناة الناتجة عن قلة المياه. وعبر عدد من المواطنين استطلعتهم (الأهرام اليوم) وفضلوا حجب أسمائهم عن أن استقرار الأوضاع بالمعسكر مرده الأساسي إلى أنهم يشعرون بحالة من الأمان وإجماعهم على أن العيش في استقرار يمثل أهمية قصوى لكل من النازحين، لذا فإنهم حاولوا قدر الإمكان الاستفادة من الواقع الجديد وقرب المكان من المدينة واعتادوا على العادات الجديدة وألفوها وأصبحوا يمارسونها بشكل اعتيادي نسبة لقربهم من المدينة، وغابت مظاهر التعصب القبلي في أبو شوك رغم أن كل من نزحوا إلى أبوشوك قدموا من مناطق متفرقة وقرى مختلفة، وأصبح يفرد أبوابه لكل القادمين دون أدنى مظاهر فرز أو انتماء قبلي. وعن التحول في نمط الحياة وإلى أي مدى يمكن أن يسهم في التخلي عن الموروثات؛ أكدوا أن الجميع يحافظ على موروثاته دون إلحاق أي أضرار بالآخر، ويحترمون الآخر بكل موروثاته، وأشاروا إلى أن العودة أصبحت شبه مستحيلة بعد أسلوب الحياة الجديد الذي اعتادوا عليه ولن يجدوه في القرى النائية التي أحرقتها الحرب وتنعدم فيها الخدمات الأساسية في مختلف المجالات التي وجدوها في متناول اليد بسبب قرب المعسكرات من الفاشر التي بها الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها من الضروريات الأساسية، بجانب أن المعسكر به سوق يحتوي على كافة الأغراض ويعتبر موازياً لسوق المدينة الكبير، ويضم سوقاً للمحاصيل النقدية ويضيفون أن في بعض الأحيان يأتي مواطنو الفاشر للتبضع من سوق معسكر أبوشوك وجل التجار في السوق من مواطني المعسكر، أي كانوا نازحين في البداية ولكنهم تمكنوا من بناء أنفسهم رغم رؤوس الأموال البسيطة التي بدأوا بها إلى أن ازدهرت تجارتهم شيئاً فشيئاً وأضحوا من التجار الكبار ومن الأثرياء الجدد بالفاشر. ومن الأشياء التي قد تبدو من غرائب الأمور الهجرة اليومية التي يقوم بها بعض مواطني الفاشر تجاه معسكر أبوشوك للتبضع والتلذذ بتناول وجبة شهية بالمعسكر، بفضل الشهرة التي حاز عليها والسمعة الجيدة عن امتياز سوق المعسكر بتقديم أفضل أنواع (الشية) من جميع أنواع اللحوم، تحاكي في صورتها ما تعارف عليه بسوق الناقة وقندهار. والنواحي الاجتماعية بالمعسكر تبدو عليها حالة من الانصهار رغم تمايز السحنات والقبائل التي قدمت إلى أبوشوك إلا أنهم يتعايشون في نوع من الاستقرار ونادراً ما تحدث أي مضايقات أو اختلافات بحسب محدثينا، وهو ما يبدد الحديث عن المشكلات التي تذكر في هذا المنحى. استحالة العودة إلى القرى أكدتها بشكل لا يدع مجالاً للشك إحدى النازحات وهي تتحدث لنا عن أوضاعها منذ قدومها، وتقول إنها فقدت زوجها في الحرب والبؤس الذي عانته بعد ذلك وهي تعمل الآن في كمائن صنع الطوب حتى تعول أبناءها بعد توقف الإغاثة التي أصبحت لا تمنح إلا بمقابل مادي. وتضيف أنها تصنع ألف الطوب الأخضر مقابل (130) جنيهاً وتستغرق (10) أيام في إنتاج الألف، وتجلب الماء بيدها من المضخات، ويشاركها في ذلك كل النسوة العاملات في صناعة الطوب، مؤكدة أنه رغم العناء إلا أنها لا تفضل العودة إلى قريتها التي جاءت منها والواقعة غرب منطقة كرومة التي بدورها تقع في الاتجاه الغربي من مدينة الفاشر، وتعزي تمسكها بخيار عدم العودة إلى ما حققته من استقرار وتوفير لما تسد به رمق أطفالها الذين لا يفارقونها ويوجدون معها على الدوام وسط كمائن صناعة الطوب. والوضع في معسكر زمزم الذي يقع جنوبالمدينة وإن كان ليس شبيهاً لما عليه الحال في أبوشوك، بل يبدو أكثر استقراراً من زمزم الذي يعتريه شيء من القتامة إلى الآن وعدم الاستقرار، وربما يرجع ذلك لبعده قليلاً عن المدينة عكس أبوشوك الذي أصبح كأنه أحد أحيائها، ويعزي بعض المراقبين حالة التوجس والريبة التي تسيطر على المعسكر أغلب الأحيان إلى كونه يضم داخله إثنيات الزغاوة والفور فقط اللتين تقتسمان المعسكر، ويؤكدون أنه الأمر الذي جعل المعسكر يعاني من وقت لآخر من حدوث حالات اشتباك وقاعدة لانطلاقة الهجمات التي تنفذها عناصر الحركات المسلحة، مما حدا بوالي شمال دارفور عثمان محمد يوسف كبر لحفر خندق يحيط بالمعسكر لمعرفة الداخل والخارج منه، ورغم مظاهر الريبة والشك في كل من هو غريب على المعسكر إلا أن (الأهرام اليوم) لدى تجولها في زمزم رصدت نوعاً من الاستقرار الموازي ولو إلى حد ما لمعسكر أبوشوك، ونفس التحول في المباني وسوق خاص بالمعسكر وإن كان يحتشد في يوم واحد من الأسبوع إلا أنه يبدو مكتنزاً بالبضائع ويوفر كل أغراض المواطنين الأساسية ويستعين به تجار الفحم ويجعلون منه مركزاً لتخزين بضاعتهم وترحيلها إلى داخل الفاشر بواسطة استخدام النساء اللائي يقمن بنقله عبر الدواب لاسيما (الحمير)، وذلك بسبب ما يفرض عليهم من رسوم من قبل الجهات الرسمية بالولاية. إلى ذلك أكد وزير الشؤون الاجتماعية بولاية شمال دارفور لدى حديثة ل(الأهرام اليوم) أنه رغم مظاهر الاستقرار الحادثة الآن للمعسكرات إلا أن الوضع لا يطاق، مشيراً إلى أن النازحين أكثر من عانوا وتضرروا من الحرب، الأمر الذي يستوجب على الجميع تعويضهم التعويض اللائق وحلحلة كافة مشكلاتهم وتقديم أفضل الخدمات التي تقنع النازحين بالعودة إلى قراهم بعد قيام مفوضية النازحين، وأن لا تكون عودة للاستعراض التلفزيوني فقط بل نريدها عودة حقيقية وفي مناطق آمنة بعد إحكام التعاون بيننا والنازحين حتى نتفحص قضاياهم، ولابد من توفير مصدر رزق للعائدين حتى يحسوا أنهم نالوا فوائد عقب تضحيتهم بتسع سنوات بسبب معاناة الحرب وربط التعامل مع المعسكرات بتكملة هياكل السلطة الإقليمية. وفي السياق ذاته نجد أن حكومة شمال دارفور تركت الباب مفتوحاً أمام عزمها الجاد لتنفيذ برامج العودة الطوعية للقرى وفقاً لتصريحات سابقة للوالي كبر، الذي قيد أمرها بأنها لمن أراد العودة، ولكن واقع الحال بالمعسكرات يجعل السير في الطريق عسيراً إن لم يكن مستحيل