العودة إلى سنار قصيدة من خمسة أناشيد، استهلها المبدع محمد عبد الحي بما ورد في كتاب (الفتوحات المكية) لمحيي الدين بن عربي الأندلسي: يا أبا يزيد ما أخرجك عن وطنك؟ قال: طلب الحق. قال: الذي تطلبه قد تركته ببسطام. فتنبه أبو يزيد ورجع إلى بسطام ولزم الخدمة حتى فُتح له. ولعله شاعرنا بعد عودته إلى سنار قد فتح له لأن الذي يريده قد تركه بسنار حيث العمق الروحي الديني، والمملكة السودانية ذات الهوية الواضحة، والتمازج العرقي الذي ليس ببدوي ولا زنجي، وإنما هو منهم وكفى حيث الحلم ينمو تحت ماء الليل أشجاراً يحرق أو يصهر الذات، وحيث الرمز خيط من بريق أسود بين الذرى والسفح، والغابة والصحراء، والتمر الناضج والحذر القديم، إنها العودة إلى الجذور بعد أن تاه الشاعر سنيناً وسنيناً مستعيراً لسان وعيون الآخرين (الآخرون هم الجحيم). الليلة يستقبلني أهلي أهدوني مسبحة من أسنان الموتى إبريقاً جمجمة.. مصلاة من جلد الجاموس رمزاً يلمع بين النخلة والأبنوس لغة تطلع مثل الرمح من جسد الأرض وعبر سماء الجرح هذا التناقض الظاهري يؤكد وعي الشاعر بمجتمعه، ويجعل من هذه (المتعلقات) دعائم البناء الذي قام عليه المجتمع السناري، هذه الثقافة الجماعية هي مصدر الوحدة والمكوّن التاريخي للشخصية السودانية، فالغابة والصحراء امرأة تنتظر ثورها الإلهي حيث الوجه والقناع شكل واحد يزهو في سلطنة البراءة، وقد امتزجت كل تلك الرموز والكيانات في دولة سنار الحاضرة في ذهن الشاعر فهي ذلك الرمز الذي غبر، والحضارة التي سادت ثم بادت، فهو يحتفي بها دوماً، رحلة البحث عن المكوّن الزنجي والعربي ثقافياً.. وينداح الشاعر منطلقاً من «منصة» سنار لينبش بعضاً من الأساطير العربية والأفريقية ليقول إن سنار لا تنفصل عن هذا الإرث التاريخي وإن كانت لها شخصيتها التي تميزها: صاحبي قل ما ترى بين شعاب الأرخبيل أرض «ديك الجن» أم «قيس» القتيل أرض «أوديب» و«لير» أم متاهات (عطيل) أرض «سنغور» عليها من نحاس البحر صهد لا يسيل لقد طرق الشاعر أبواب المدينة، وأبرز هويته السودانية (العربية الضاربة في العمق الزنجي): بدوي.. لا.. من بلاد الزنج لا.. هو منهم عاد إلى جذوره بعد أن كان يغني بلسان ويصلي بلسان، فهل يفتح له؟ إننا نفتح (يا طارق) أبواب المدينة. فهل (الطارق) هو (اسم الفاعل) من الفعل (طرق). أم هو ذلك الرمز العربي الأفريقي طارق بن زياد فهل هو عربي أم بربري؟ فيفتح له في الحالين إن كان منهم فقد عرفوا وجهه الذي يشبه وجوههم، وإن كان غريباً فهذه المدينة لا تطرد الغرباء بل تؤويهم وتبلغهم مأمنهم ما دام قد لجأوا إليها، ووقفوا على أعتابها، واعترفوا بكياناتها، وأرادوا أن يغتسلوا بنهرها، ويصلوا بلسان واحد! لقد عرفت سنار وجهها فيه، وهي تعرف كذلك وجوه القادمين إليها لغة على جسد المياه ووهجاً من البلور وبعض إيماء ورمز مستحيل فيقول بلسان حاله ومقاله: اليوم يا سنار أقبل فيك أيامي بما فيها من العشب الطفيلي الذي يهتز تحت غصون أشجار البريق اليوم أقبل فيك أيامي بما فيها من الرعب المخمر من شراييني وما فيها من الفرح العميق إن عودة شاعرنا إلى سنار عودة إلى المكان وعودة إلى الذات في آن معاً، إنه المكان الذي يتصالح فيه مع ذاته حيث يدخل سنار حافياً وينام مثلما ينام الطفل، وكما تنام الطير في أعشاشها، والسمك الصغير في الأنهار، والثمار في غصونها، والنجوم في مشيمة السماء. هذه قمة التوحد مع الذات حيث الأمن في الوطن الذي يحتضنه، لقد وجد الشاعر ذاته، ووجد هويته، وتصالح مع المكان الذي هو الذات في رؤية أخرى، متجاوزاً بذلك السؤال التقليدي، الذي لا يخلو من غرض في منحى آخر، هل نحن عرب أم أفارقة؟ الغابة أم الصحراء؟ الرقي الفكري والثقافي ووعيه بمكونات مجتمعة، جعلته (الشاعر) يتجاوز هذا الجدال المارق، ليثبت الهوية السنارية وكفى