جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    شاهد بالصور.. المذيعة المغضوب عليها داخل مواقع التواصل السودانية "تسابيح خاطر" تصل الفاشر    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    مناوي: المدن التي تبنى على الإيمان لا تموت    الدعم السريع يضع يده على مناجم الذهب بالمثلث الحدودي ويطرد المعدّنين الأهليين    بالصورة.. "حنو الأب وصلابة الجندي".. الفنان جمال فرفور يعلق على اللقطة المؤثرة لقائد الجيش "البرهان" مع سيدة نزحت من دارفور للولاية الشمالية    بالصورة.. "حنو الأب وصلابة الجندي".. الفنان جمال فرفور يعلق على اللقطة المؤثرة لقائد الجيش "البرهان" مع سيدة نزحت من دارفور للولاية الشمالية    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    القادسية تستضيف الامير دنقلا في التاهيلي    تقارير تتحدّث عن قصف مواقع عسكرية في السودان    بمقاطعة شهيرة جنوب السودان..اعتقال جندي بجهاز الأمن بعد حادثة"الفيديو"    اللواء الركن"م" أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: الإنسانية كلمة يخلو منها قاموس المليشيا    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    مانشستر يونايتد يتعادل مع توتنهام    ((سانت لوبوبو الحلقة الأضعف))    بالصورة.. رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس: (قلبي مكسور على أهل السودان والعند هو السبب وأتمنى السلام والإستقرار لأنه بلد قريب إلى قلبي)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    الترتيب الجديد لأفضل 10 هدافين للدوري السعودي    «حافظ القرآن كله وعايشين ببركته».. كيف تحدث محمد رمضان عن والده قبل رحيله؟    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    أول جائزة سلام من الفيفا.. من المرشح الأوفر حظا؟    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    برشلونة ينجو من فخ كلوب بروج.. والسيتي يقسو على دورتموند    شاهد بالفيديو.. "بقال" يواصل كشف الأسرار: (عندما كنت مع الدعامة لم ننسحب من أم درمان بل عردنا وأطلقنا ساقنا للريح مخلفين خلفنا الغبار وأكثر ما يرعب المليشيا هذه القوة المساندة للجيش "….")    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بالصور.. أشهرهم سميرة دنيا ومطربة مثيرة للجدل.. 3 فنانات سودانيات يحملن نفس الإسم "فاطمة إبراهيم"    بنك السودان .. فك حظر تصدير الذهب    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    رونالدو يفاجئ جمهوره: سأعتزل كرة القدم "قريبا"    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    عقد ملياري لرصف طرق داخلية بولاية سودانية    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    الحُزن الذي يَشبه (أعِد) في الإملاء    السجن 15 عام لمستنفر مع التمرد بالكلاكلة    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الْعَودةُ إلى سنَّار... الشّعرُ قِنَاعًا للْهُويَّة (22)
نشر في الصحافة يوم 27 - 12 - 2011

قدم الكاتب في الحلقة الأولي من هذا المقال رؤية جديدة لقصيدة محمد عبد الحي العودة الي سنار ويواصل هنا عرض ارائه.
المحرر
نشيد الليل
ينطوي نشيد الليل على مجاز رؤية متصلة بختام النشيد السابق (نشيد المدينة ) ؛ لهذا يفتتح الشاعر نشيد الليل بذكر المدينة ، لكن المدينة هنا هي جزء من الليل فهي مكان الحلم الذي يراه الشاعر في الليل .
ويمكننا القول أن نشيد الليل هو امتداد حلمي لنشيد المدينة . فالشاعر يستخدم الإيهام المتصل بعالم البحر وبدايات التكوين ؛ بطريقة يمكن أن تربك القاريء في فك دلالة الوضوح الصاعدة نحو الرؤيا في الأناشيد ، وبهذا المعنى فإن إحالات نشيد الليل نسق منعكس لإحالات نشيد البحر ، وبما أن نص عبد الحي هو نص إحالات بامتياز ؛ سنجد أن إحالات نشيد الليل هي رموز جنينية لعالم مكتمل في اليقظة يعود إلى بداياته عبر الحلم ، وهي أيضًا رموز يحاول الشاعر من خلالها تأويل الاندماج في تصور الهُوية المكتملة عبر بداياتها الأولى المختزنة في?النواة ، وهو تأويل يتصل بترميز مركب حاول الشاعر من خلال تجسيد دلالة الهُوية في ذات أسطورية ؛ تتصل بالخرافة وتدل على الفرادة في الوقت عينه ؛ حيث يستدعي الشاعر الكائن الخرافي(السمندل) من التراث العربي للإشارة إلى أُقنوم الهوية المركب للسلطنة الزرقاء .
وبعد أن قال الشاعر في ختام نشيد المدينة بعد دخوله إلى سنار:
(ونِمْتُ
مِثْلَمَا يَنَامُ في الحَصَى المَبْلُولِ طِفْلُ المَاءْ........) (نشيد المدينة)
يبدأ نشيد الليل بهذا المقطع
(وفَتَحَتْ ذِرَاعَها مَدِيِنَتي وحُضْنَها الرَّغِيدْ)
في نشيد الليل تذوب روح الشاعر في حلمه ، حيث تنفتح على رؤاه بدايات مملكة البراءة والزرقة ؛ ذلك أن الليل في هذا النص هو حاضن الحلم الذي تتجلى من خلاله علامات الرموز الأولى المهيأة للنضج الأبديّ في أفق الشمس الزرقاء . والتي يتأمل من خلالها الشاعر حالة الأُقنوم الذي سيجسّد بتكوينه المركب بداية جديدة لتكوين عناصر مملكة البراءة ، والسمندل هو الذات التي تستقطب تلك العناصر.
(ويَعْبُرُ السَّمَنْدَلُ الأحْلامَ
في قَمِيصِهِ المَصْنُوعِ مِنْ شَرَارْ)
(في اللّيْلِ حَيْثُ الثَّمَرُ الأحْمَرُ
والبُرْعُمُ ، والزَّهْرَةُ في وَحْدَتِهَا الأولَى
مِنْ قَبْلِ أنْ تُعْرَفَ مَا الأشْجَارْ)
ومن خلال نشيد الليل يعود الشاعر مرة أخرى إلى جدلية الدم والماء (ماء الليل) ، (وليل الدماء) التي أشار إليها الشاعر في النشيد السابق (نشيد المدينة) ،فالماء يسبق الدم ، حيث الماء هيولى ، والدم تكوين ، الماء عدم والدم وجود ؛ وهي جدلية ؛ تشكل باستمرار إطار الكينونة المتخلقة من الغياب إلى الحضور ، ومن الصمت إلى اللغة ، جدلية الماء والدم تستدعي التحول من العدم إلى الوجود ، أو الظهور عبر مصهر النار المتصل بعلامة الطيور الدالة على الوضوح في المعجم الشعري لهذا النص . ويأتي الصقر في هذا النشيد علامة على بداية التكو?ن المتصل بالنهاية في مجاز الليل فبين اللحم والعظام يكون الدم علامة الحياة :
(في اللَّيْلِ يَنْتَاشُ بَقَايَا خُرْقَةِ اللَّحْمِ على العِظَاِم
صَقْرُ اللَّيِلِ ثُمَّ تَصْعَدُ الدِّمَاءْ
غَمَامَةً فِضِّيَّةً فَوْقَ حُدُودِ المَاءْ)
في هذا النشيد ؛ تعكس دلالة الرموز عبر استعارة الليل رؤية للنهاية المكتملة للهوية في أصل العناصر الأولى ، من خلال استعادة حلمية ، فهي اكتمال قائم ومركوز في أصل البدايات ،وهذه الاستعادة الرؤيوية تتكشف عن سياق نقيض لسردية البدايات في نشيد البحر .
هكذا نجد في نشيد الليل امتدادا لنشيد المدينة ، ورؤية نقيضة لنشيد البحر ؛ فالنشيد / اللغة يعود لشكله القديم مع انبثاق الصورة الأولى من البحر
(وتَتَلوَّى الصُّورَةُ الأولَى
وتَطْفُو في مِيَاه الصَّمْتِ
حَيْثُ يَرْجِعُ النَّشِيدْ
لِشَكْلِهِ القَدِيمِ
قَبْلَ أنْ يُسَمِّي أو يُسَمَّى في تَجَلِّي ذَاتِهِ الفَرِيِدْ)
نشيد الحلم
يفتتح الشاعر نشيد الحلم بصورة الصقر الذي اختتم به نشيد الليل تمهيدًا لرؤيا/ بشارة يراها الشاعر في آخر الليل ؛ لينتظر بعدها شمس القبول ، ونهاية الليل التي تسفر عن حلم ؛ تقوم دلالة على قدوم الفجر الذي يستدعي غياب عالم الظلام وكائناته :
(الصَّقْرُ عَادَ لِلجَّبَلْ .....
واهْتَزَّتِ النَّخْلَةُ في رشَاقَةٍ وفَوْقَهَا بُرْجُ النُّجُومِ المُكْتَمِلْ
يَجْنَحُ لِلأفُوُلْ
كَمَلِكٍ قَتِيلْ
ورَجَعَ السَّبْعُ إلى عَرِينِه ، ونَزَلَ الجَّامُوسُ لِلمِيَاهْ)
في هذا النشيد يستعيد عبد الحي رؤى البحر المنطفئة ،الرامزة إلى الغموض، والعتمة ؛ ليظهر بعدها الطير مرة أخرى في براري الحلم علامة على الرؤيا وبروز عوالم متصلة بالكشف ، وبالرغم من أن الصوت الفردي يناسب فضاء الحلم ؛ فإن الشاعر يختبر مرة أخرى رؤاه في ضوء إشارات نشيد البحر ويستدعي بعض إحالاته :
(ولَمْ يَزَلْ طَيْرُ دَمِي يَصِيحْ
.....................
ويَضْرِبُ المَوْجُ بَرَارِي حُلُمِي
وتَحْمِلُ الرِّيَاحْ
لِي مَرَّةً ثَانِيَةً رَائِحَةَ البَّحْرِ ونَقْشًا مِنْ نُقُوشِ لُغَةٍ مَيِّتَةٍ عَلى الْجِرَاحْ)
ولأن تأويل البحر في نص عبد الحي يستدعي المتاهة ؛ فإن الشاعر يتساءل عن مغزى تلك الرؤى المستعادة في الحلم من نشيد البحر ، ومن خلال هذه التساؤلات التي تتأول احتمالاتها بين الوعي والغموض ، والحضور والغياب على امتداد مقاطع النشيد تتضح عوالم الحلم من خلال الرموز ، فبعد أن يستعيد الشاعر ذلك المشهد من عالم البحر في نشيد الحلم يقول :
(أدَعْوَةٌ إلى سَفَرْ
أمْ عَوْدَةٌ إلى ظَلاَمِ الأرْضِ والشَّجَرْ
أمْ صَوْتُ بُشْرَى غَامِضٍ يَرْجُفُ كَالسِّحْلِيَّةِ الخَضْرَاءِ تَحْتَ خَشَبَاتِ البَابْ
يَبْعَثُهُ مِنْ آخِرِ الضَّمِيرِ مَرَّةً عُوَاءُ آخِرِ الذِّئَابْ
في طَرَفِ الصَّحْرَاءِ ، مَرَّةً رَنِينُ مَعْدَنٍ في الصَّمْتْ
ومَرَّةً هَمْسُ عَصَافِيرِ الثِّمَارِ حِينَمَا يَلْمَسُهَا بِالَّلهَبِ الأزْرَقِ جِنِيُّ القَمَرْ)
في هذا المقطع تبدو علامات الرحلة في الحلم عبر رموز الهوية الكامنة في أقنومها ؛ فالذئاب التي ترمز إلى الغابة يتصادى عويلها في الصحراء ؛ برنين الذهب في صمت البدايات ؛ وهمس الثمار الصيفية الناضجة .
إنه صوت البشارة إذ يتشكل عبر أصوات تلك الرموز بين مختلف الأشكال ؛ ليتحول إلى صوت باب الجبل الدال على المملكة الزرقاء حيث يشير الشاعر إلى هذا المعنى بقوله :
(أمْ صُوْتُ بَابِ جَبَلٍ يَفْتَحُهُ في آخِرِ اللَّيْلِ وقَبْلَ أوَّلِ الصَّبَاحِ
المَلِكُ السَّاهِرُ في حَدِيقَةِ الوَرْدِ البِدَائِيَّةِ في إشْرَاقَهِ الجِرَاحْ
يَمُدُ لِي يَدَيْهِ
يَقُودُنِي عَبْرَ رُؤى عَيْنَيَهِ
وعَبْرَ أدْغَالِ لَيَالِي ذَاتِكِ القَدِيِمَهْ
لِلذَّهَبِ الكامِنِ في صُخُورِكِ العظَيِمَهْ)
وهكذا يقع الشاعر على صورته الأولى المفضية للذاكرة الأولى ؛ ليحتمي بها من الضياع في المتاهة ، فالرموز التي يوردها الشاعر في رحلته عبر الحلم تعيد باستمرار ملامح ذات تاريخية قديمة في أشكال : الزهرة ، والثعبان المقدس ، تمثال العاج ، والنقوش السوداء ، وهي رموز تاريخية تشكلت في رؤى الشاعر كبشارة للرؤيا الكبرى في المستقبل .
ويتحول صوت البشرى الغامض إلى أصوات أخرى أكثر وضوحًا ، صوت باب الجبل الذي يرمز إلى صدى الكينونة في التاريخ (الملك / المملكة الزرقاء) ثم صوت الوطن المسموع في صوت المرأة / الوطن التي تفتح باب الجبل .
وبعد أن يرى الشاعر تلك الرموز ويسمع الأصوات يتساءل :
(حُلُمٌ مَا أُبْصِرُ أمْ وَهْمٌ
أمْ حَقٌ يَتَجَلَّى في الرُّؤيَا ؟)
وهذا التساؤل سيصاحب الشاعر خلال هذا النشيد في حلمه الطويل.
فالمرأة /الوطن حين تفتح أبواب الجبل الصامت ،وتستعيد الضوء عبر قناديل العاج ؛ تنام في عتمة التاريخ ؛ لتولد مرة أخرى في انبعاث جديد بين الحرير وتتهيأ بحميمية النشوة والرنين جسدًا ناضجًا بين يدي شيخ يعرف خمر الله وخمر الناس :
(أسَمَعُ صَوْتَ امْرَأةٍ تَفْتحُ بَابَ الجَّبَلِ الصَّامِتِ تَأتِي بِقَنَادِيِلِ العَاجِ
إلى دَرَجَاتِ الهَيْكَلِ والمَذْبَحِ ثُمَّ تَنَامُ ....
لِتُولَدَ بَيْنَ الحُرْحُرِ والأجْرَاسْ
شَفَةً ، خَمْرًا ، قِيثَارًا
جَسَدًا يَنْضَجُ بَيْنَ ذِرَاعَيْ شَيْخْ)
ويتحول الصوت إلى لغة في شفاه من ذهب :
(لُغَةً فَوْقَ شِفَاهٍ مِنْ ذَهَبٍ
أمْ نُورٌ في شَجَرِ الحُلُمِ المُزْهِرِ
عَدَدَ حُدُودِ الذَّاكِرَةِ الكُبْرَى
الذَّاكِرَةِ الأُولَى)
هكذا تتحول الأصوات إلى رموز واضحة في رؤية الشاعر من التاريخ إلى الوطن ؛ لتجد معناها الكامل في ثمرة العلاقة بين المرأة والشيخ طفلا يجسده صوت الشاعر المعبر عن صوت شعبه :
(أمْ صُوْتِي يَتَكَوَّرُ طِفْلًا
كَيْ يُوْلَدَ في عَتَبَاتِ اللُّغَةِ الزَّرْقَاءْ)
بيد أن الشاعر يرى الحلم مكتملًا من وراء أفق بعيد ، فصوته الوليد لا يزال متكورًا يحمل في ذاته أطيافًا غامضة ؛ لأجيال في الغيب البعيد ؛ حيث يكتمل النشيد ويتجسد الصوت :
(وتجِيئُ أشْبَاحٌ مُقَنَّعَةٌ لِتَرْقُصَ حُرةً زَمَنًا،على جَسَدي الذي يَمْتَدُ أدْغَالًا ، سُهُوبًا تَمْرَحُ الأفْيَالُ ، تَسْتَرْخِي التَّماسِيحُ ، الطُّيورُ تَهُبُّ مِثْلَ غَمَامةٍ، والنَّحْلُ مِرْوَحَةٌ يغنّي وهو يَعْسِلُ في تَجَاوِيفِ الجِبَالِ ، وتَسْتَدِيرُ مَدِيَنةً زَرْقَاء في جَسَدِي ، ويَبْدَأُ صَوْتُها ، صَوْتِي ، يُجَسِّدُ صَوْتَ شَعْبي ، صَوْتَ مَوْتَاي الطَّلِيقْ)
لقد ظل عبد الحي يطارد صوته ورمزه في الحلم ؛حتى عثر على معناه في المقطع السابق ؛ولهذا يقول الشاعر في نهاية نشيد الحلم :
(مَاذَا أكُونُ بِغَيْرِ هذا الصَّوْتِ ؛ هذا الرَّمْزِ هذا العِبْءِ يَخْلُقُنِي وأخْلُقُهُ)
وإذ يكتمل الحلم أخيرًا بعد مَتاهٍ داخل الليل ؛ ينام الشاعر مرتاحًا في انتظار الشمس :
(وحِيْنمَا يَجْنَحُ آخِرُ النُّجُومِ للأُفُولْ
ويَرْجِعُ المَوْتَى إلى المَخَابِيءِ القَدِيِمَهْ
......................................
أنَامُ في انْتِظَارْ
آلِهَةِ الشَّمْسِ وقَدْ أُتْرِعَ قَلْبِي الْحُبُّ والقَبُولْ).
نشيد الصبح
سنلاحظ أن إيقاع هذا النشيد مختلفٌ عن بقية الأناشيد ، في سرعته التي توازي اهتزاز الفرح والقبول ، وما يتصل بذلك من خفة ونشوة .
يفتتح الشاعر هذا النشيد مستقبلًا شمس (سنار) بالترحاب والحفاوة ، فالصبح هو أفق القبول الذي تتجلى فيه شمس الهوية ، ويتمثل الشاعر من خلاله حقيقة الرؤيا عبر يقين خرج به من متاهة الغياب .
وإذا كان الشاعر قد أخلد إلى النوم في النشيد السابق ؛ بعد أن رأى الحلم متجليًّا لينتظره مع الشمس ؛ فإن القبول هنا علامة الرضا والاكتمال:
(مَرْحَى تُطِلُّ الشَّمْسُ هذا الصُّبْحَ مِنْ أُفُقِ القَبُولْ
لُغَةً على جَسَدِ المِيَاهْ)
هكذا يكتمل الصوت عبر اللغة ويتصل الضوء بالأصول البعيدة ، في ليل الجذور ؛ لتبدو سنارُ شمسًا تسطع من جديد :
(اليَوْمَ يَا سِنَّارُ أقْبَلُ فِيكِ أيَّامِي بِمَا فِيِهَا مِنَ العُشْبِ الطُّفَيْليِّ الذي يَهْتَزُّ تَحْتَ غُصُونِ أشْجَارِ البَرِيقْ)
وبالرغم من أن العشب الطفيلي الذي ذكره الشاعر هنا كدالة على هوامش وبقايا عالقة ، أو زائدة تحت أشجار البريق ، إلا أن هناك ما يمكن أن يكون دلالة مضمرة حيال مكونات أخرى عالقة ، وحائلة دون صفاء الهوية .
بيد أن دالة القبول هنا المعبر عنها باللازمة الزمانية (اليوم أقبل ....) ربما كانت دالة على معنى ظلّ عسيرًا على القبول في الذاكرة العربية التقليدية ؛ ذلك أن تمثل عبد الحي وقبوله ورضاه بهويته التي ضاع عنها زمنًا ؛ ليقبل بها من خلال أُقنومها المزدوج (العروبة والزنوجة) كان بمثابة انتهاك جسور لتابو الثقافة الشعبوية العربية التي كانت تتماهى مع مكون واحد (المكون العربي) ، كمرجعية عرقية ولغوية ، وتنكر المكوِّن الزنجي الذي ظل بمثابة التابو في سرديات الثقافة الشعبوية العربية ؛ ولهذا فإن إشارات القبول التي تتكرر في نش?د الصبح تحيل بصورة من الصور إلى تجاوز عبد الحي لذلك التابو المفروض على ذاكرة الثقافة العربية الشعبوية لشمال السودان . في هذا النشيد يضج بالوضوح كثمرة للرؤيا ، ويتأمل الشاعر ما يتدفق من ضوء شمس الرؤيا ؛ ليملأ به الحواس وهو امتلاء يقوم على تذويب وتشذيب بقايا العتمة ؛ ليستعيد الشاعر صفاء اللغة في الغناء :
(وأقُولُ : يَاشَمْسَ القَبُولِ تَوَهَّجِي في القَلْبِ
صَفِّيِني وصَفِّي مِنْ غُبَارٍ دَاكِنٍ :
لُغَتِي غِنَائِي)
ويستمر الشاعر في توصيف العناصر المزدوجة للأُقنوم المركب في سنار الجديدة :
(سِنَّارُ
تُسْفِرُ فِي
بِلاَدِ الصَّحْوِ جُرْحًا
أزْرَقًا ، قَوْسًا ، حِصَانًا
أسْوَدَ الأعْرَافِ ، فَهْدًا قَاِفزًا في
عَتْمَةِ الَّدَّمِ ، مَعْدَنًا في الشَّمْسِ ، مِئْذَنَةً،
نُجُومًا في عِظَامِ الصَّخْرِ ، رُمْحًا فَوْقَ مَقْبَرَةٍ
كِتَابْ)
وإذ يعود الشاعر إلى ذكر سنار صراحة في هذا النشيد الأخير ، كما ذكرها في نشيد البحر ناعتًا إيّاها بالمملكة الزرقاء ؛ فإن ذلك يستدعي بالضرورة مقابلةً للوضوح ؛ تقوم نقيضًا لعالم الغموض والغياب ،عالم البحر ، ويذكر الطيور ضمن دلالتها الخاصة في هذا النص:
(رَجَعَتْ طُيُورُ البَحْرِ فَجْرًا مِنْ مَسَافَاتِ الغِيَابْ
البَحْرُ يَحْلُمُ وَحْدَهُ أحْلاَمَهُ الخَضْرَاءَ في فَوْضَى العُبَابْ
البَحْرُ إنَّ البَحْرَ فِينَا خُضْرَةٌ
حُلُمٌ هَيوُلَى)
ويختم الشاعر نشيده الأخير في القصيدة باكتمال شمس الهوية/ الوطن ؛ ليطمئن هذه المرة ليس على رضاه النفسي وتوازنه بعد صراع طويل ؛ بل وكذلك على سيرورة المستقبل في أفق الوطن الطالع من شمس الهوية ، فالشمس تكررت أربعَ مراتٍ في هذا النشيد .
كما يتجلى في هذا النشيد معنى الوضوح المعبر عنه بأكثر من دلالة ، وهو وضوح يتفرع عن الشمس: البريق / الوهج / اللهب / اللمعة / الظهيرة /الصحو / الإسفار/ النقاء . و في موازاة الضوء تأتي ثيمة اللغة كدلالة على الهُوية ، ذلك أنّ الهُوية مسألة لغوية في جذورها كما يقول (جون جوزيف) ف ((التفكير في اللغة والهوية يستلزم تحسين فهمنا لماهيتنا))3 ؛ ولهذا نجد عبد الحي ذكر مفردة اللغة أربعَ مراتٍ تمامًا كمفردة الشمس ؛ ما يعني أنّ صورة الهُوية ومعناها يقومان على الرؤية واللغة
(الشَّمْسُ تَسْبَحُ في نَقَاءِ حُضُورِهَا ، وعلى غُصُونِ القَّلْبِ عَائِلَةُ الطُّيُورِ ، ولَمْعَةٌ سِحْرِيَّةٌ في الرِّيِحِ ، والأشْيَاءُ تُبْحِرُ في قَدَاسَتِهَا الحَمِيَمهْ
وتَمُوجُ في دَعَةٍ فلا شَيْءٌ نَشَازْ ، كُلُّ شَيءٍ مَقْطَعٌ ، وإشَارَةٌ تَمْتَدُ مِنْ وَتَرٍ إلى وَتَرٍ على قِيْثَارَةِ الأرْضِ العَظِيمَة).
المعنى الثقافي ل(العودة إلى سنار)
أنّ الهُوية التي تمثلها عبد الحي في شعره كانت في الحقيقة تَمثُّلًا جماليًّا لمكوّن كبير من مكونات الهُوية السودانية ، دون أن تكون مستوفية لمشمولات الهوية في الكيان السوداني ؛ يفسر ذلك أن الزّنوجة والإفريقانية جاءت في تأويله للهُوية كعنصر في سياق الدلالة على هُويّة الوسط والشمال السوداني ، وبطبيعة الحال لم يكن هذا التعريف الشعري يتضمن هُويّات زنجية أخرى صرفة في الجنوب والغرب ؛ أي أنّ محمد عبد الحي كان يختبر هُويّة ناقصة ،ويعيد تفسيرَ مكوِّنٍ مسكوتٍ عنه في هُويّة سودان الوسط والشمال ؛ ما يعني بالضرورة أن الغ?بة والصحراء كانت تجربة لغوية جسورة واجهت الثقافة الشعبوية العربية في شمال السودان بمكون آخر ، كان بمثابة التابو في ماهو معلن من سرديات تلك الثقافة العربية.
لقد نجح عبد الحي في مقاربة هُويّة ما للسودان عبر الشعر ، وبعيدًا عن الآيدلوجيا لكن نجاحه هذا ظلّ يدرج الهُويّة الزّنجية للسودان مشروطةً بالاندماج في الهُويّة العربية ؛ أي لم يكن هناك حديثٌ عن هُويّة زنجيّة ناجزة ، وخالصة في مكوّنات السودان السياسي ضمن رؤيته للأنا السودانية .
كانتِ (العودة إلى سنار) انتهاكًا لأسطورة الهُويّة العربية الصافية في السودان ،وتعبيرًا جسّد اعترافًا بالزّنوجة في إطار مشروط بالعروبة ومندمجٍ فيها. إنّ(العودة إلى سنار) في المعنى الثقافي لدلالتها ، حاولت أن تعبر في فضاء ثقافي عربيٍّ عن هُويّة مزدوجة ؛ لكن تعبيرها ذاك كان في تأويله الأخير إعادة تعريف بهُويّة ناقصة في بلد ما تزال للزّنوجة فيه هُوية مَحضة ،ومتماسكة .
* ناقد وشاعر سوداني الرياض
1 العودة إلى سنار ص 37 الطبعة الثالثة عن دار مدارات الخرطوم 2010
2 (المملكة الزرقاء) كانت أول كيان سوداني جمع بين الزنج والعرب في حلف واحد . وكانت عاصمتها مدينة (سنار) . تأسست المملكة الزرقاء في القرن الرابع عشر وانتهت في بداية القرن التاسع عشر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.